أحمد الدرينى يكتب | مدخل بيولوجي لفهم علاقة النظام المصري بغزة!
ربما بمفردهم رجال الحكم والبيولوجيون، هم الذين يقتسمون هذا الاحتقار الأصيل للجموع والشعوب.
الإنسان بوجهة نظر كليهما، عبارة عن حيوان منوي ناجح، تمكن من اختراق بويضة، في حين فشلت ملايين الحيوانات الأخرى في النجاح، فالبقاء.
وكما انتخبت الطبيعة هذا الحيوان المنوي بصدفة عمياء، فإنه لا داعي للصراخ حين يقصف منجل الطبيعة عمره، بصدفة عمياء مثيلة..سواء كانت مرضا أم حادثا عرضيا أم عدوانا إسرائيليا غاشما!
ربما يصلح هذا المدخل لتفسير وجهة نظر الدولة المصرية الرسمية تجاه ما يجري بغزة.
فإطعام وحماية نحو مليون ونصف مليون(بني آدم) في قطاع غزة، أمرٌ خارج اختصاص وأعباء النظام المصري المثقل بطبيعة الحال باحتياجات الواقعين في إسار نفوذه الجغرافي.
ولا تبدو «الشهامة» و«المروءة» و«الإنسانية» من المفردات الواردة في قاموس أنظمة الحكم، فمهمتها الأصيلة هي إدارة شؤون مواردها الداخلية، وفي حالات الأزمات كما هو الحال الآن، فإن محاولة بسط يد الحنان والشفقة لمأزومين في قطر آخر، تبدو-بالنسبة للنظام المصري- ترفا ليس بمقدوره تحمله.
وبحسب زفاي مازيل، سادس سفراء الكيان الصهيوني بالقاهرة: فإن القنوات بين المخابرات المصرية وحماس مفتوحة، والجغرافيا تجبر الطرفين على التواصل لأجل المصالح المشتركة.
لكن في بيان مؤسسة الرئاسة المصرية الصادر عصر السبت 12 يوليو، فإن مصر لمست خلال جهودها واتصالاتها لإنقاذ غزة «عنادا» و«تعنتا» من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.
وفي اقتران «العناد» و«العنت» مع كلمة «الطرفين» التي تساوي بين القاتل والمقتول..نفور وملل و(طهق) مصري رسمي من القضية وتبعاتها، التي يبدو أننا نتعاطى معها من باب سد الذرائع، بأكثر مما هو من باب مسؤولية مصر كـ «شقيقة كبرى».
ويبدو أن نفور مصر، متساو تجاه الناحيتين، بوصف كليهما يمثل بنزقه العسكري، قلقا غير مرغوب على حدودنا. فمصر لا تريد مغامرات من حماس باختطاف مستوطنين إسرائيليين، ولا تريد من إسرائيل اجتياحا وحشيا لقطاع يقع على حدودها.
مصر الرسمية، في جفوة معلنة مع حماس، وربما يتساوى لديها بمفاهيم الأمن القومي خطر كل من حماس وإسرائيل، وأنشطة كليهما في مصر.
بل لا تثق مصر في أخلاق وسلوك حماس بالتبعية..ولديها كل الحق.
ففي مشهد تسليم الجندي المختطف شاليط، أصرت مصر الرسمية أن يتولى اللواء رأفت شحاتة (مدير المخابرات الأسبق) عملية تسليم شاليط بنفسه أمام الكاميرات، ثم وثق التلفزيون المصري امتنان وشكر الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم بموجب الصفقة، لصالح مصر نظاما وشعبا.
وكان في هذا التوثيق محاولة إثبات تاريخية للدور المصري الذي تثق القاهرة أن حماس ستنكره يوما ما، وستتنصل منه بنذالة، مثلما هو جار الآن!
فالملوم الآن في وجهة نظر حماس والإخوان هو الجيش المصري، والمخالف للمواثيق والعهود الدولية هو الدولة المصرية، وكأن لا إسرائيل في المعادلة أصلا.
واجهات حماس الإعلامية تلوم مصر بأضعاف ما تتحدث عن إسرائيل، وتتهمها بالخيانة والتواطؤ. وكأن إدارة مصر لمسألة المعابر (على هذا النحو النصف قاسي نصف حاني) هي العدوان المبين والجرم الأكبر، بمعزل عن جرائم الكيان الصهيوني، وبمعزل عن نزق حماس (أو غيرها) في اختطاف وذبح المستوطنين الإسرائيليين المراهقين الثلاثة قبل وقت قريب.
والحاصل من هذا كله أن مصر كارهة للمشهد بكل تفاصيله ولم تكن تود أن تستقبله في هذا التوقيت المبكر من حكم السيسي، بينما هو منشغل ببحثه عن ذاته وهويته وأركان دولته في مشهد أليق ما يكون بهاملت ورحلة تساؤلاته الوجودية.
وإذا كان احتقار مصر لحماس مفهوم، فإن السؤالين الضرورين هنا: ما هو موقفها من إسرائيل؟
ثم والأهم من سكان قطاع غزة من أشقتنا..من البشر العاديين الذين يريدون العيش فحسب، ولا يعنيهم حماس أو غير حماس؟
في بيان مؤسسة الرئاسة ملل من الجانبين، إسرائيل وسواها، ولا يبدو أن مصر تريد أن تلعب دور الوسيط ولا أن تنغمس في هذا المسلسل السيزيفي من المشاورات مع الطرفين.
والحاصل أن مصر منشغلة في حلفها الإقليمي الجديد، بهمومه وأحلامه، مع السعودية والإمارات ودول خليجية أخرى، ولا يحتاج نظامها الحالي مساندة إسرائيلية سياسية ولا يحتاج لأن يتقي منها شرا أو يرجو من ورائها خيرا.
ومن ثم فإن إسرائيل تبرز مرة أخرى كعدو بغيض، تضطرنا الظروف للتعامل معه. إذ أنه لا حاجة بالنظام لتجميل أو إعادة صياغة هذه الحقيقة.
أما مشاعر مصر الرسمية تجاه غزة فتبدو لي متناقضة جدا، وقاصرة وتتسم بالكثير من ضيق الأفق، وكأن النظام يتحرك تحت ستار ( ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع) كما يقول المثل الشعبي النذل.
ربما يعتقد النظام أن ضحايا حوادث الطرق لدينا في يوم واحد قد يفوق عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة. وقد فقدنا بالفعل في حادث العبارة الأليم عام 2006 أكثر مما فقدت غزة من بشر بعد 30 يوم من العدوان الإسرائيلي المتواصل..ومن ثم فإنه لا داعي للصراخ والعويل!
والخطير في تقييم الوضع في غزة هو النظر إليه على أنه (معركة في الجوار) و(قلق على الحدود)..فهذا من إرث بلادة مبارك، وعدم إدراكه للحقائق الإنسانية والاجتماعية على الأرض..ومن ثم المواقف السياسية الكبرى.
فمصر لن تسترد وضعها الطبيعي في السياسة العربية والإقليمية، لمجرد العلاقة الطيبة التي تربط القاهرة بالرياض، ولن تتمكن من كسب نقاط على أرض الواقع دون أن تدفع ثمن ذلك جهدا ومالا وعرقا.
والأهم من هذا كله، هو البعد لأخلاقي للأمور.
فإذا لم يكن النظام المصري قادرا على فصل خصومته مع حماس (وهي جديرة بأن نخاصمها)، عن علاقته المركبة مع قطاع غزة (الذي هو امتداد عضوي وإنساني لنا)، فإنه سيتهاوي سريعا في أول اختبار إقليمي جاد..والسبب «أزمة وعي».
وليس مطلوبا من النظام المصري أن يبالغ في أدائه البلاغي والعاطفي، بمقدار ما هو مطلوب منه أن (يؤمن) و(يعتقد) بحق، أن هناك مأساة في غزة، بما تمثله غزة من امتداد إنساني ووجداني للحدود المصرية، وربما للحالة المصرية نفسها، بقيمها وانحيازاتها واختياراتها في الحياة.
وأن من أعبائه الخارجية، ما يوازي في ضروراته الإنسانية والأخلاقية والسياسية، أعباءه الداخلية.
وغنيٌ عن القول أن نذكٍر للنظام المصري: اكره حماس ما شئت..لكن فلتتعاطف مع غزة بما تبقى في عروقك من إنسانية. حتى ولو كانت قد تآكلت في ظروف تاريخية معقدة!