مجموعة سعودي القانونية

أحمد الدرينى يكتب | مرافعة الحجاج بن يوسف الثقفي في محاكمة القرن!

أحمد-الدريني

على نحو أو آخر، يمثل الحجاج بن يوسف الثقفي خلاصة الديكتاتورية والطغيان العربي منذ العهد الأموي وحتى الآن، حتى أصغر مستبد جالس على كرسي الحكم في البلدان الواقعة من الخليح للمحيط.

كل الطغاة العرب على خطاه، وكلٌ منهم حصل قدرا من شخصيته المركبة المعقدة، ونال قدرا من جبروته وبغيه.

ولا تبدو لي خطبة مبارك العصماء (المملة أيضا) أمام محاكميه، ولا خطب جنرالات الدم من بعده إلا تجسيدا جديدا لأسطورة الحجاج بن يوسف الثقفي..وزير داخلية بني أمية ورجل الدولة الأول.

عُهد إلى الحجاج بمحاربة وتشتيت الخصوم السياسيين للدولة الأموية، فقتل عبد الله بن الزبير (أول مولود في الإسلام، رضي الله عنهما) وصلبه في جوف الكعبة، وضرب البيت الحرام بالمنجنيق. ثم توسع في حرب الخوارج، وقمع الثورات، وأعمل السيف في الناس، وضرب الرقاب ويتم الأطفال ورمل النساء، إلى أن استقر الأمر لعبد الملك بن مراون خليفة على الناس.

وطوال سيرة الحجاج المخضبة بالدم، وطوال حكمه للعراق، لم يهتز له طرف ولم ينازع ضميره نازع حول صحة ما يفعل. بل لقد حاول أحد الفتية طعنه يوما ما، فأمسكه الحراس، وحين سأله الحجاج: لم تريد قتلي؟ قال أنت قتلت أبي ياحجاج!

فقال الحجاج: ومن أبوك يا فتى.. فقد قتلت آباء كثيرين!

بلور الحجاج مذهبه كمستبد، واستقر عليه معتقده، متسقا معه تمام الاتساق. بل ربما كان يخطب في أهل الكوفة عن منجزاته بذات الطمأنينة والتيه الذي يتحدث به مبارك عن منجزاته أمام محكمة القرن.

وربما للمفارقة التي لا تهمل، فقد توسع الحجاج في بناء الطرق والجسور والكباري، وإعادة تقسيم الأراضي!

وحين كاد الحجاج يغرق ذات مرة أثناء سباحته في نهر الفرات، قفز أحدهم فأنقذه.. فاستنكر الناس فعله وكادوا يفتكون به غيظا.. وسألوه لم أنقذت الطاغية؟ قال والله خفت أن يموت شهيدا فيدخل الجنة!

كان الحجاج قد احتل أسوأ مكانة يمكن لطاغية أن يحتلها قط، إذ عاداه أهل العلم والتقوى والورع، حتى قيل إن كل أمة ستأتي يوم القيامة بمجرميها، وتأتي أمة الإسلام بالحجاج بمفرده ممثلا عن الإجرام أوله وآخره!

قتل الحجاج التابعي الجليل سعيد بن جبير، ثم اختل نفسيا بعدها لمدة أيام، سرعان ما مات بعدها، بعدما اشتكى من الدماء التي يراها في كل مكان وبعدما كان يردد على فراش الموت: مالي ولسعيد بن جبير؟ مالي ولسعيد؟ في إشارة على ندمه على فعلته مع التابعي الجليل الذي دعا قبل موته أن يكون هو آخر من يقتله الحجاج.. وكان أن استجاب الله دعاه.

ورغم هذه النهاية المأساوية للطاغية..الذي قد أوشك على الجنون في أيامه الأخيرة، إلا أن آخر ما تلفظ به في ساعاته الأخيرة في الحياة يظل مثيرا وملهما وداعيا للتأمل.

أوصى الحجاج قائلا بأنه يموت على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله..

وهنا تذكرت تمسح مبارك بآيات الذكر الحكيم في خطبته الأخيرة أمام المحكمة..

ثم قال الحجاج لأحد أصحابه وهو يحتضر: وأشهد بأني لا أعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك..عليها أحيا وعليها أموت!

الطاغية حتى في نزعه الأخيرة يصر على قناعته السياسية ويثبت ولاءه لطاغية أكبر منه هو الوليد بن عبد الملك.. وكأنه يقر ويثبت في صحيفته مسؤوليته العقلية والعقيدية عن كل جرائمه بشأن آلاف المسلمين الأبرياء الذين قتلهم.

ثم طلب أن يجتمع حوله بعض رجاله، وأصر أن يتلو أحدهم شيئا من آي القرآن..ثم سرعان ما خاض جدلا رفيعا مدهشا حول ما سمع من القرآن، يليق به كأحد أمكن من تعاملوا مع القرآن تاريخيا حفظا وإدراكا واستخداما لآياته.

وقال: اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل

ثم سرعان ما أنشد شعرا فائق الجمال :

يارب قد حلف الأعداء واجتهدوا أيمانهم أني من ساكني النار

أيحلفون على عمياء ويحهم.. ما ظنهم بعظيم العــــــــفو غفار!

وطلب أن يحفر قبره في مكان عميق حتى يتعذر نبشه، إدراكا منه لما في الصدور من كراهية له ورغبة في الانتقام منه ولو بعد رحيله عن الدنيا..ثم مات في منتهى التصالح مع الذات، كأنه وليٌ من أولياء الله الصالحين!

وكأن حياته كانت ناصعة البياض، ولم يعكر صفوها ولا صفو «إنجازاته» غير قتل سعيد بن جبير..

أصدقكم القول، لقد رأيت الحجاج في محاكمة القرن يدافع عن نفسه..عن تاريخه وعن كباريه وطرقه وبنيته التحتية وعن تأمينه للناس من شرور «الخوارج» و«الزبيريين» و«الشيعة»..أو «الثوار» و«حماس» و«حزب الله» و«أمريكا».

لقد رأيت الحجاج بتمسحه في كتاب الله وآياته، بينما يداه ملطختان بدماء الأبرياء على مدار سنوات وسنوات..

لقد رأيت الحجاج يتحدث بطمأنينة أمام قاضيه..معتبرا أن قتل سعيد بن جبير كان حدثا طارئا واستثنائيا، ولو أن قليلا من الحظ واتاه لتلافاه.

لقد نثر الحجاج لسانه وحجته وروحه على ألسنتهم جميعا..

الله بيننا وبينكم.. إذا عز العدل في قضاء الأرض، فإن في موقف عظيم ملتقانا عند من لا يظلم مثقال حبة من خردل.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر:المصرى اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *