اليوم الأول:
عندما أنجبتهم الأرض أرضعتهم صلابتها فى التكوين؛ وعلمتهم التحرك على إيقاع دورانها، فشرعوا بالدوران حول الطبيعة. لفظت الأرض بعضهم على شاطئ البحر، فسرعان ما انتبهوا لقهقهة الأمواج فضحكوا متخذين من الضحك لغة، وعُرفت “قبيلة الضاحكين”. وعلى غرار ذلك منهم من شاهد السماء تمطر، فامتثل لفعلها وشاركها البكاء واتُخذ من البكاء لغة، وعُرفت قبيلة البكائين. وآخرون من طغت الصحراء عليهم بعواصفها، فصرخوا متخذين من الصراخ لغة، وعُرفت “قبيلة الصارخين”. أما سكان الحدائق مثل زهورها، تراقصوا على ألحان الهواء الرطب، واتخذوا من الرقص لغةً، وعُرفت سكانها ” قبيلة الراقصين”. وبرغبة اكتشاف الآخر أصبح جليًّا أن لكل منهم لغته المختلفة التى لن تترك مساحةً للتواصلِ فيما بينهم. ومع الوقت تسللت مشاعر التعالى، والزهو إلى نفوس قبيلتى الراقصين والضاحكين، حيث كلاهما أيقن أنه الأفضل، والذى يستحق أن يرث الأرض، غير مكترثين بتواجد الآخرين. فنما تضاؤل فى نفوس قبيلتى الصارخين والبكائين. ودّا لو تبادلت الأدوار أو على الأقل اقتناص فرصةً فى البقاء. وهكذا انعزلت جميع القبائل وبدأوا بالدوران حول أنفسهم.
اليوم الثانى:
فى النهار استقرت الشمس، ونشرت عرقها الأزرق الحار فى السماء، لذا بنوا بيوتـًا مثل السحب لكن من طين. وعندما اعُتصرت أحشاؤهم من ألم الوحدة، أناسوها بلحوم حيوانات نيئةٍ ونباتات. مارسوا ذلك بوحشية الشمس. أما فى الليل تسلل ضيف مظلم إلى السماء شاربًا عرق الشمس الحار ليضئ قمرًا منحهم السكون. جعلهم ودعاءً مثله. أضاءوا البيوتَ بنومهم، وحين تسمح الفرصة للنجوم بالظهور نشأت وعود بين الذكور والإناث بميلاد نجوم ستضئ لهم الحياة، أو تضمن لهم البقاء. تعلقوا بتكرار النهار والليل، فمضت حياتهم متكررة على هذا المنوال، إلى أن يستيقظوا يومًا ليجدوا أحدًا انقطعت عنه أنفاسه ورأى كسوف الشمس وخسوف القمر! ليس له مكان إلا تحت الأرض، حيث يتحقق الظلام التام وبقوا على عزلتهم
اليوم الثالث:
ولد فى قبيلةٍ ما ذكر، وفى نفس الأثناء وُلدت أنثى فى قبيلةٍ أخرى. هو تخطى الطفولة إلى الصبا إلى الشباب محاطًا بعادات أسلافه وانعزالهم. دار فى دائرةٍ مغلقةٍ، لكنه أحدث فيها ثقبًا حينما اختار أن يصبح راعيًا للغنم ويصنع من صوفها لباسًا لقبيلته. كان يصطحب الغنم إلى مناطق شاسعةٍ بعيدةٍ، ثم يعود مرة أخرى إلى موطنه. هى عاشت طوال حياتها محبوسة فى قمقم مثل كل الإناث لا يخرجن منه إلا عند الزواج، لكنها خرقت القمقم كالجنيات حينما صاحبت دود القز لتغزل من خيوطِه ملابسَ من حرير. كانت تفعل ذلك ثم تعود إلى موطنها. التقيا حيث كان يغزل الصوف وتغزل هى الحرير. غزلت العيون لهما خيوط الحب، لتنصبَ لهما فخًا وقعًا فيه. تدفئت بقلبه الصوفى وانتعش بنعومة قلبها الحريرى. فى النهاية قررا أن يعيشا سويًّا. فما أن علمت القبائل جميعها بذلك حتى وقفت لهما بالمرصاد، فما كان أمامهما إلا الهروب فتتبعتهم القبائل وأنياب الكراهية والرفض تنهش الطريق. إلى أن استوقفهم منظرٌ أدهشهم: ماهذا؟ جذع شجرة امتد بعرض خط الاستواء، وارتفاعه إلى مالانهاية. نظروا إلى السماء، أين الفروع والأوراق؟ لكن الجذع مرتفعٌ ليشق جبين السماء. فى غمرة ذلك تسلق العاشقان الجذع ليهربا من بطش القبائل.
اليوم الرابع:
حين فرغوا من اندهاشهم، كل قبيلة نظرت إلى الجذع بتأمل شديد. صرخوا، رقصوا، بكوا، ضحكوا، انتبهوا أخيرًا إلى وجودهم مجتمعين مرةً أخرى. الطبيعة تقايضنا من جديد، لكن الآن سنملك كل شىء ونسود على الباقين. هكذا تردد فى أذهان كل قبيلة، وبدأ العراك. هجموا بالفؤوس على الجذع. قطعوا أخشابًا لبناء الممالك وعروشها. وفيما بينهم تهافتوا على حصد الأرواح، حيث سقط البكاء والصراخ والضحك والرقص فى بحيرات من الدماء، بينما العاشقان استكملا رحلة التسلق صاعدين إلى ما لانهاية بالنسبة لمن بالأسفل، وبالنسبة لهما قمة الشجرة، حتى وصلا وألقيا جسدهما فى الفراغ وناما.
اليوم الخامس:
هب نسيم اليقظة فتفحت زهور العيون. نهضا ومشيا ببطء والدهشة ظلهما الذى لايفارق. الأزرق الرائق كسا كل شيء حولهما، الحيوانات والنباتات والطيور. نظر كل منها إلى الآخر ليجدَ تحول الجسد من لون الطين إلى لون السماء، وتبخر اخضرار الشباب وحلت محله زرقة الطفولة. أثناء التجوال شاهدوا شجرة تفاح. ثمة فراغ بها يوحى أن هناك ثمرةً تم اقتطافها. اعتلت الأنثى أكتاف الذكر، وهمت باقتطاف ثمرة. صرخت فى أقرانها: (يامعشر التفاح، اختبئن بأغصانكن كى لا يقطفنكن آدم وابناؤه مرةً أخرى ). سقط الذكر والأنثى من الصدمة. قالت الثمرة: “ابتعدا عن هذة الشجرة، وعيشا الحياه هانئنين، فالشيطان أول عنصرى زرع بذرة الكراهية فى الكون. ليس هنا أمامكما متسعٌ من الحب والحياه”. أما بالأسفل اشتدت وطأة المعارك، وزاد تأكل الجذع صانعين منه عروشًا لممالكهم الجديدة، وحطبًا ليشعلوا به النار، لتتسع دائرة الدمار. كانت كل قبيلة تغير على اعدائها للحصول على الطعام والشراب، وتحرق البيوت وتقتل أصحابها عند عودتهم من كل غارة. وقت اقتسام الغنائم يشعرون بأن أرواح القتلى لا تزال معهم يأكلون ويشربون ويتمتعون بما سُرق منهم ويرحلون. لذا اشتد النهم لدى المغيرين، وأثناء الغارات كان أفراد من بعض القبائل يأكلون أجساد القتلى. أحسوا وقتها بأن هناك أعضاء جديدة نتبت فى أجسادهم، مما زاد من النهم أكثر وأكثر ليزداد تأكل الجذع.
اليوم السادس:
عاش العاشقان فى سعادةٍ وسط كائناتٍ لاتتغذى على بعضها البعض. كان من حق جميع الكائنات أن تحيا كما يحلو لها، مثلاً للأسماك حق وقدرة العيش على البر، والطيور أن تعيش فى البحر، والحيوانات الأليفة أن تطير وتعود إلى طبيعة حياتها مرةً أخرى، والنار الزرقاء لا تحرق ولاتُتلف، على العكس تبنى بيوتًا وتزرع حدائق. عاش كل شيء فى وئام، وكأن كل منهم يؤدى صلاة تطهر لمثيلهِ على الأرض. لكن مصدر القلق كان نابعًا من اهتزازات الجذع بسسب تأكله أما الأخير استمر أنينه لم يجد أمامه إلا الخراب القبائل قاربت على إبادة بعضها وانطمست مدنها وعروشها ولم يتبق منهم إلا الجوعى المشردون الذين أكملوا الحرب، وأخذوا يطعنون الجذع ويقتطعون منه. تذكر الجذع المشاهد التى كانت تجمع القتلى فى أنفاسهم الأخيرة، حين اقسموا أنهم لو عادوا للحياه سعيشون فى سلام، وصور هياكلهم العظمية التى بعد التحلل، فقد علم أنهم جميعًا سواء. فى هذا الوقت اشتدت الضربات بالفؤوس حتى صرخ الجذع الصرخة الأخيرة وسقطت الشجرة .
اليوم السابع :
استراح الملكوت من كل ماحدث، والجذور مازلت باقية لإنبات شجرة جديدة يمتد جذعها بعرض خط الاستواء، وارتفاعها يصل إلى ما لانهاية، والأرض تأخذ هدنةً لإنجاب بشر آخرين.