أيمن الجندى يكتب | ألغاز الحياة
قابلنا دون سابق ترتيب فى إحدى الرحلات السياحية. التقت عيوننا بمحض الصدفة. فظهر على كلينا الحرج وعدم الارتياح. كنت أعلم أننى آخر شخص تريد أن تراه فى هذا العالم. وإننى أثير لديها كوامن الذكريات الأليمة. ولم يكن هذا ذنبى، وإنما الأقدار ترتب لكل منا دوره فى هذه الدراما التى تُدعى الحياة.
وتحركت الحافلة. وحرصت أن أكون فى أبعد مكان عنها. لكن هيهات متى كان العالم الداخلى للإنسان مقيدا بالمسافات؟ وما بين طرفى المجرة الأدنى والأبعد إلا مسافة تنهيدة! كنت أعلم أنها تفكر فىَّ كما أفكر فيها، ولعل مرارة حياتها قد استعادتها الآن.
لم يكن زوجها صديقى فى أى وقت، ولكن كانت تجمعنا معرفة قديمة. وفجأة شاهدتها فى المستشفى الذى أعمل به. وحييتها بدافع المجاملة، وحين سألتها عن زوجها اقتنصت فى عينيها نظرة متألمة تريد أن تشكو وتنطلق.
وفاجأتنى فى اليوم التالى حين طرقت باب العيادة، ولم يفلح حرصى على اللياقة والتهذيب فى محو نظرة الدهشة المرتسمة على ملامحى. وبدأت الشكوى من زوجها. ولم أدر لماذا اختارتنى بالذات! وكأنها قرأت دهشتى المكتومة فأخبرتنى أنها تجنبت الأصدقاء اللصيقين حرصًا على كتمان الأمر، ولمعرفتها بعلاقتى القديمة بزوجها.
توقفت الحافلة وبدأ التسكين فى الفندق. أول ما فعلته حين دخلت غرفتى أنى فتحت النوافذ على مصاريعها، وشرعت أحدق فى أمواج البحر الغامض المتلاطم. لشد ما تفاجئنا الحياة بألغازها ومتناقضاتها. ظلت تحدثنى عن المشاجرات التى تنشب بينهما طيلة الوقت. وحالة الخوف التى ألمت بطفلهما الوحيد. كنا وقتها فى بداية حياتنا العملية. وكان الحصول على المال أشبه باستقطار الصخر. وبالنسبة لشاب كزوجها يعمل منذ الصباح وحتى المساء ثم لا يحصل على الحد الأدنى للحياة الكريمة فقد كان فتيلا قابلا للاشتعال. وكانت هى اللهب الذى يقترب أكثر من اللازم. جدب مادى وروحى وعاطفى. وذقن غير حليق وهندام غير مرتب. ووجه تطالعه عند الاستيقاظ دون أن ينال قسطا كافيا من النوم، وإهانات متبادلة، وصراخ ابنهما. وإذا لم يكن هذا هو الجحيم فما هو الجحيم؟
ودق الهاتف فى غرفتى يستحثنى لتناول الغداء. ولمحت الموائد العامرة برواد الفندق، ولمحتها تجلس بجوار ابنها الذى صار مراهقا فى الخامسة عشرة. واخترت ركنا منعزلاً لآكل طعامى بلا شهية. أذكر أنها عندما خرجت من العيادة تنهدت وكأننى أزحت عن صدرى جبلا ثقيلا. وكان ما تريده واضحا: «إما أن يجد مخرجا من هذه الحياة الصعبة أو ينفصل كلاهما فى سلام». ولم أدر كيف أفاتح زوجها فى الأمر وعلاقتنا سطحية، ثم قررت عدم التدخل.
فى الأيام التالية للرحلة تجنبتها قدر استطاعتى. لكنى كنت أعرف أن المواجهة قادمة. وأن من طرقت أبوابى بالأمس ستطرقها اليوم. وبالفعل ونحن نتناول طعام الإفطار الأخير استعدادا لمغادرة الفندق وجدتها وقد حملت طبقها وجلست على مائدتى. وتبادلنا ابتسامات الحرج. بالفعل تم الطلاق بعد زيارتها بشهور. لكن الدراما تنشأ من مفارقات الأيام. وزوجها ضيق الرزق قد أمطرته السماء مطرة غير متوقعة. ومع النجاح والشهرة تبدل حاله تماما. الظهر الذى أحنته نوائب الدهر استقام. والوجه صار حليقا ومشرقا. والنعمة تسرى فى الغصون الجرداء فتصبح مخضرة. اليوم صار رجلا ملء السمع والبصر يخطف الأبصار مع زوجته الجديدة أينما حل. ومن حولهما ينثتر أطفالهما كملائكة صغار.
وشعرت بقلبى يغوص حين تأملت ذبول ملامحها ونظرات الهزيمة والتسليم.