أيمن الجندى يكتب | الربيع للربيع
لم تفهم شيماء لماذا أنهى دكتور صلاح خطبتهما بعد حضورهما حفل زفاف زميلهما فى القسم، ولا حاول دكتور صلاح أن يشرح لها الأمر. كل ما حدث أنها دخلت الحفل تتأبط ذراعه فخورة به. كانت فى حقيقة الأمر تحبه. وهى التى سعت كى تلفت أنظاره إليها. وهذا الربع قرن الذى يفصل بين عمريهما لم تتوقف عنده ولو للحظة.
دخلا الحفل فتلقى أهل العروسين الدكتور صلاح بترحيب بالغ. وأوسعا لهما الطريق إلى مائدة مميزة. التصقت شيماء به أكثر، ورفعت إليه عينين مضطرمتين بالافتتان. لكنه كان منعزلا فى عالمه الداخلى، فلم يلاحظهما. وفكرت فى نفسها أنها بالفعل تؤمن بالحب وقدرته على تخطى جميع العقبات. ولو كان صلاح فقيرا أو مريضا أو حتى أصغر منها لأحبته أيضا، ولصممت على الزواج منه بلا تردد.
التردد كان فى استجابة دكتور صلاح لها. بدا رزينا أكثر مما يستلزمه الأمر. أى عازب فى بداية الخمسينيات مثله، تأخر فى قرار الزواج، وظهرت له فتاة مغرمة به لن يتردد. كانت شيماء جميلة حقاً والكل يخطب ودها.. فلماذا اختارته هو؟ كان أستاذها الذى تُيمت به، ومن أجله أحبت مادته. ومن أجل حلم راودها أن تزامله اجتهدت فى دراستها حتى صارت معيدة فى القسم نفسه. وقتها انهار السد، ولم تعد قادرة على أن تكبت عواطفها أكثر. وكل الشباب الذين يلاحقونها لم تكن مستعدة لمجرد مقارنتهم بالدكتور صلاح.
كان صوت الموسيقى قد ارتفع إلى الحد الذى أصبح تبادل الكلام بينهما متعذرا. وبدا على وجهه الوسيم الانزعاج. أما هى فرمقته بعينين عاشقتين. واضطرمت وجنتاها بدماء حارة. وشرعت تفكر فى حفل زفافهما القادم المقدر له أن يكون بعد شهرين. وابتسمت.
كانت الطبيعة سخية حقا مع وجه الدكتور صلاح. لم تظهر عليه آثار السنين، وبدا فى جلال رجولته كتفاحة فى ذروة نضجها. لكنه كان يعلم عمره الحقيقى حينما ينظر إلى وجوه زملائه الذين انتشرت فيها التجاعيد وسطع الشيب الأبيض. كان ناضجاً إلى الحد الذى يكفى ليعلم أن التفاحة حين تصل إلى ذروتها سيعقبها النضوب، وأن الشباب ليس قوة جسد بقدر ما هو حيوية روح.
وبدأ أصدقاء العروسين يتجمعون فى منتصف الحفل، واحتدم الرقص وساد المرح حتى أصبح الصوت لا يُطاق. ولاحظ دكتور صلاح أن الموائد انقسمت تلقائيا، ودون أن يتعمد أحد، إلى جانب للكبار وجانب للشباب. ووجد نفسه فى الجانب الصحيح. شيماء فقط فى الجانب الخطأ، هكذا فكر وهو يرمقها فى رثاء. يعرف أنها تحبه حقا، ولكن ماذا بعد؟ عيناها تلمعان بالمرح، وجسدها كسهم يود أن ينطلق من عقاله. ولعلها لاحظت أن مزاجه منحرف، ولذلك لم تدعه للرقص. هو أول من لاحظ انحراف مزاجه كثيرا فى السنوات الماضية. نوبات الملل التى صارت تراوده والركود العظيم. وكان يفتعل الحماسة حين يشاهد وجهها الطفولى النزق المفتون بالحياة. لكنه كان يعرف أنه يمثل لإرضائها، ولكن هل سيستمر التمثيل مدى الحياة؟
ونظر إليها فى عطف، وطلب منها أن تنضم لثلة الشباب. وتمنعت قليلا ثم اندمجت فى الغناء والتصفيق. ودمعت عيناه وهو يشاهدها: فراشة جميلة الألوان تليق بزهور الربيع. وأحس لأول مرة أنه يحبها حقا، ولذلك فسوف يتخذ القرار الصعب الذى سيكون أنانيا لو لم يتخذه: الربيع للربيع.