مجموعة سعودي القانونية

أيمن الجندى يكتب | الشر الجميل

د.-أيمن-الجندى1

قضية طلاق أخرى

جلس الزوجان فى مكتبى يتبادلان صراخ الديوك. وأنا أرمقهما فى رضا، وكأننى انتهيت من عشاء دسم مجانى، فقد كان معلوماً لدى، ولدى غيرى من المحامين، أن أجرى سيزيد كلما ازدادت مرارة الخصومة.

على أن ما حدث بعدها أصابنى بالذهول. الزوج الذى كان يمطرها بالشتائم قال لزوجته إنه أسف! رد فعل زوجته لم يكن أقل غرابة، إذ ارتمت بين أحضانه باكية، ووسط نظراتى الذاهلة انصرفا متعانقين.

احتجت وقتا كى أستعيد توازنى بعد السيرك الذى شاهدته، لكن هذه لم تكن إلا البداية فقط. الزبون التالى أعلن تنازله عن كل القضايا لأنه ـ كما قال باكيا- ظالم ومفترى! ثم ارتمى فى أحضانى وهو يمسح إفرازات أنفه فى قميصى، ويقول نائحا: «أنا وحش.. أنا أى كلام».

لم يخطر على بالى أن ما يحدث عندى يتكرر عند جميع المحامين. لسبب مجهول كف الناس أن يكونوا أشرارا. لا يوجد تفسير لما حدث. لقد عم السلام العالم، ولم يعد هناك ظالم أو مظلوم.

هذه التغيرات الدرامية المفاجئة كان ينبغى أن أشارك الناس الفرحة بها لولا أن مكتبى خلا تماما من الزبائن. حاولت أن أتسامى ولكن أنى ذلك وقد لاح أمامى شبح الجوع! ولم يعد أمامى سوى البطالة والتسكع والضياع.

لم أكن وحدى فى ورطة. كل من يرتزق من خصومات الناس: الضباط! المحامون! القضاة! محضرو المحاكم! الدبلوماسيون! كلهم صاروا فجأة بلا عمل بعد أن عم السلام الأرض وكف الناس عن الخصومة. إن دراسة القانون لا جدوى لها إلا إذا كان هناك من يخالفه. أما إذا تحول الناس إلى ملائكة فلماذا يضعون القانون أصلا؟

كنت أشاهد زملاء المهنة يجوبون الشوارع زائغى الأبصار. أولاد الحرام الذين هبط السلام فجأة فى قلوبهم ألا يعلمون أن الشر ضرورى جدا لاستمرار الحياة؟ لا يحق لهم أن يتصالحوا فيما بينهم تاركين إيانا مشردين فى الشوارع.

فى الأيام التالية، ولسبب مجهول آخر، اختفى المرض من الأرض، وأصبح الناس أقوياء معافين. وهكذا انضم الأطباء والممرضون إلى طابور العاطلين.

رحت بعقل مضطرب أفكر فيما يجب علىّ عمله. يجب أن أجد وظيفة وإلا مت من الجوع. دراسة القانون قريبة بشكل ما من المحاسبة، ويمكننى أن أتعلمها بسرعة. دخلت مكتب ضرائب لأجرب حظى فتناولت السكرتيرة أوراقى بالطريقة التى تمسك بها سمكة متعفنة. واستطعت بالإلحاح أن أقابل صاحب العمل. استقبلنى ببشاشة حتى علم أننى باحث عن عمل، فنظر إلى سكرتيرته بحدة، وكأنه يسألها كيف سمحت لى بالدخول. وحكيت له قصتى فأخبرنى بأنه شخصياً على حافة الجوع بعد أن كف أصحاب الأعمال عن التهرب من الضرائب.

قال وهى يتلوى: «إنها الأخلاق بنت الحرام».

خرجت إلى الشارع فانفجرت بالضحك الهستيرى. ولمحت محل عصير قصب ففكرت أن الأمر سينتهى بى للعمل هناك. ولكن هل تتسع محال العصير لجيوش من الأطباء والمحامين يجوبون الشوارع جائعين؟

متى ينتهى هذا الكابوس؟

وبغتة بعد أن صرنا على حافة المجاعة، عاد الشر فجأة كما ذهب فجأة، واستعرت الخصومات مرة أخرى بين البشر. كانت فرحتنا بعودته لا توصف، حتى إننا لم نتظاهر بغير ذلك. لقد اكتشفنا أن أرزاقنا مرتبطة ببقاء هذا الشر، وأننا رتبنا أوضاعنا على وجوده، فيا مرحبا بالشر الجميل.

المصدر:المصرى اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *