أيمن الجندى يكتب | بحيرة وعصافير وسماء زرقاء
استقبل الأستاذ عاطف مرضه بهدوئه المعتاد. لم يكن من ذلك الطراز من البشر الذى ينقل التوتر والرعب لسواه. ولا كان من عدم النضج بحيث يتصور أن الصحة ستدوم له إلى الأبد. بدأ الأمر بآلام محتملة فى البطن. وكالعادة تعامل الطبيب مع الأعراض بخفة. فتأخر اكتشاف المرض الخبيث حتى استفحل.
الأستاذ عاطف أسمر الوجه كالنيل، هادئ المحيا كسطح النهر. لا تتقلص ملامحه انفعالا وإنما تختلج فحسب. ليس من النوع الذى تهتز ركبتاه كثيرا أثناء الجلوس. ولا يتحدث إلا بمقدار الضرورة. وحين كانت ابنته الكبرى ترمقه دامعة فإنه كان يحرص على مداعبتها ودعمها نفسيا. لم يسمح لنفسه أن يعذب من حوله برغم أن عذابه كان حقيقيا ويوشك أن يتجاوز قدرته على الاحتمال. زوجته كانت تعرفه حق المعرفة. وهى الوحيدة التى كان ينطلق معها فى الحديث. لكن ذلك كان يحدث فى لحظات نادرة.
أصبح دخول الأستاذ عاطف المستشفى أمرا لا مفر منه. لكن التأمين الصحى كان بائسا إلى حد يصعب احتماله. هالته مشاهد البؤس والموت، خصوصا حين تنعقد الصلة الإنسانية بينه وبين جيرانه فى العنبر. ثم يأتى القىء الدموى كستارة حمراء تحجب المريض عن الوعى، ليبدأ الأنين والهذيان توطئة لأن يسدل الموت الستار الختامى.
وفى هدوء يليق بشخصيته، وبدون أى صدام، تسلل الأستاذ عاطف من المستشفى فى الصباح المبكر عائدا إلى البيت، طارقا الباب فى شبه خجل، لتستقبله زوجته فى هدوء. يندس تحت فراشه، سعيدا بعودته إلى غرفته المألوفة، آملا أن يأتيه الموت الرحيم دون ضجة.
لكن الليل صار أطول من اللازم، والألم يمنعه من النوم اللهم إلا سِنَة عابرة يفقد فيها الوعى عدة دقائق قبل أن يعاود الاستيقاظ على طوفان أفكاره المحمومة. وبرغم رفض الطبيب البات الحبوب المنومة فإنه كان يتناولها خلسة! إذ ما فائدة أن يطول عمره بضعة أسابيع يصاحبها الألم. لكنه سرعان ما أدرك أن ديمومة استخدام الحبوب المنومة ستؤدى حتما إلى فقدان فاعليتها.
كانت النهاية تقترب، والنوم ضيف عزيز لا يزوره إلا نادرا. وفاحت الغرفة برائحة الكولونيا الرخيصة المختلطة برائحة المرض. وغابت الشمس فلم تعد تزور غرفته. وقرأت زوجته فى عينيه أنه يتسول النوم. كى يهبه ولو ليلة واحدة بلا ألم. كانت الإنسانة الوحيدة على ظهر هذا الكوكب التى تفهمه بمجرد النظر. جلست على حافة السرير وسألته: «عاوز تنام؟». أغمض عينيه وقد بلغ به التعب منتهاه. قالت له فى هدوء وثقة: «تخيل أنك على شاطئ بحيرة جميلة! وتخيل أن هناك عصافير تطير فى سماء زرقاء صافية. وتخيل أنك تسمع صوت خرير الماء».
ثم قبلته على جبينه وقالت وهى تغادر الغرفة: «تصبح على خير وأحلام سعيدة يا رب. وأنا حادعيلك كتير أوى».
بمجرد أن أغلقت الباب حتى انبث نور لطيف غمر الغرفة. وفقد الوعى عدة مرات ثم استعاده. وفجأة انكشف السقف عن سماء زرقاء بلون البحر الزاخر. وعبرت العصافير الجدران، لا يعرف كيف! ولم تكن هذه هى آخر الأعاجيب لأنه فراشة طفت فى الماء كموجة هادئة. وقال كالمتعجب إن زوجته تعرف دائما ما تقول. وكلامها قد تحقق حرفيا ولم يتبق إلا خرير الماء! وبالفعل لم تمض لحظات إلا وراح يصغى إلى خرير الماء يهبط من مكان ما، يهمس له بأخبار مفرحة.