أيمن الجندى يكتب | سالم
عشرون عاما وأكثر وأنا عاجز عن تصنيفه. هل هو إنسان سامى النفس يقظ الضمير؟ أم هو رجل ميت الحس بليد الشعور؟ أفعاله تحتمل هذا وذاك. كنت قد استأجرت شقة صغيرة مطلة على البحر مباشرة فى قلب الإسكندرية. وكان الوقت شتاء والليل قد سقط بالكامل حين شاهدت سيدة عجوز ملقاة فى صحن البيت. وفى حيرتى استنجدت بالسيد سالم، جارى فى البناية العجوز. طرقت بابه فسمعت حركة خافتة خلف الباب، ثم صوت حذر غير مرحب، وحين فهم الأمر ارتدى ملابسه بسرعة البرق، وحمل السيدة العجوز.
كان واضحا أنه رجل يستطيع التصرف فى المواقف الصعبة، ولو عدت أدراجى لما اهتم بذلك أو شعر بذلك. طلب من سيارة الأجرة أن تحملنا لمستشفى شهير، متحملا العواقب القانونية لو ماتت، ودافعا مبلغا دسما من المال دون تردد. وبمجرد قدوم الأطباء فإنه استدار ببساطة وانسحب فى هدوء.
كانت هذه هى علامة الاستفهام الأولى فى معرفتى به! إذ من المعتاد حين تنقذ إنسانا أن تهتم بمعرفة مصيره، ولو بدافع الفضول.
فى الصباح التالى تحسنت الحالة، ووجدت من اللائق أن أنقل له الخبر السعيد. لكنه أبدى عزوفا حيرنى ولم يبد أى نوع من الاهتمام. وظل صامتا كأنه يناشدنى ألا أطيل الزيارة ولكنى تمسكت بالبقاء. وشرعت أتأمله. كان وقتها فى منتصف الأربعينيات راقى السمت بادى التهذيب. وخمنت من نسق المكان أنه أعزب. وحاولت بكل وسعى أن أفتح بابا للتواصل الإنسانى، وأعتقد أننى أفلحت. لذلك اتصلت العلاقة بيننا حتى اليوم.
ومرت السنين وعرفت لدهشتى البالغة أنه يعمل فى فرع من العلم كان يمكن أن يدر عليه نافورة مال. لكنه لم يفتتح مشروعا خاصا قط. وتبينت عزوفه عن الاهتمام بالشؤون العامة، كل الأنباء التى تهزنا هزا لا يوليها أدنى اهتمام.
كان أمامى طراز غريب من البشر، أحاول أن أفهمه ولا أستطيع. كنت شغوفا أن أجد نسقا لتصرفاته بادية الغرابة، يفسر لى لماذا يكون فى عزلته التامة، عازفا عن الاتصال بالبشر، وفى اللحظة التى يطرق بابه طارق، أو يندفع إليه زميل من الجنس البشرى طالبا المساعدة فإنه يبادر إلى النجدة، باذلا كل نفيس. وبمجرد أن ينتهى الخطر يفقد اهتمامه به بالكلية، وكأنه لا يعرفه ويعاود الانعزال. الآن بعد كل هذا العمر أصبحت أكثر فهما له. يكاد يكون هو الإنسان الوحيد الذى التقيته فى الدنيا الذى لا يريد من الناس شيئا، ولا يتدخل فى اختياراتهم، ولا يطمع أكثر من أن يتركوه فى سلام. فليحيا الناس فى خطر أو سلام. فليذهبوا إلى النصر أو القبر.
فليقدموا القرابين لآلهة وهمية! فليركضوا خلف قوس قزح! فلينبشوا الأرض بحثا عن قدرة الذهب، فليشتغلوا بالخيمياء وتحويل الرصاص إلى ذهب. فليجمعوا من المال ما يحلو لهم، ولينفقوه أو يكنزوه. فليغامروا فى سبيل المجد، فليرفعوا الأعلام فى منافسات الكرة، فليحترقوا بشهوة النساء! فليبكوا على ما فاتهم! فليفرحوا بما آتاهم! فلتتقطع قلوبهم على حظوظ غيرهم.
أما هو فحسبه أن يعيش متفرجا، جالسا فى شرفته الصغيرة المطلة على البحر، فإذا استغاث به أحد سارع لنجدته بدافع المروءة، دون أن يسمح لنفسه بالتورط بالاهتمام. ثم سرعان ما يؤوب إلى عزلته المختارة، معادا التحديق فى زرقة البحر، حتى ينسدل على الحياة الستار.