مجموعة سعودي القانونية

أيمن الجندية يكتب | الصابون لا يكفى

د.-أيمن-الجندى1

من يصدق هذا؟

الرجل المهم يحمل دلوا صدئا مليئا بالماء يملؤه من صنبور قديم. يحمله فى سعادة ثم يجلس على البلاط الساقع للشرفة المتربة التى تطل على حقول ريفية شاسعة. وفى ضوء الصباح البهيج يمزج الماء بمسحوق الغسيل فى إناء قديم ثم يدعك الملابس بهمة امرأة ريفية اعتادت غسل الثياب.

معقول؟ الرجل المهم يفعل هذا؟

قصوره وملايينه؟ نفوذه الذى لا حد له؟ يده الباطشة التى أرسلت كثيرين إلى القبر أو ما هو أسوأ؟ الرجل الذى يرتزق منه أنصاره وخصومه على سواء؟ الامتيازات التى يغدقها على أنصاره وصحف المعارضة لا يزداد توزيعها إلا بنهش لحمه والتنديد بفساده؟ من يصدق أنه الآن يقيم بمفرده فى بيت ريفى بسيط.

ولكن لم لا؟

السادات فعلها من قبل. خلع البذلة وهرب من مثقفى القاهرة الذى كان يسميهم بالأراذل. ترك قصوره الرئاسية ولم يجد راحته إلا فى الجلباب الفلاحى وتناول الشاى الأسود على المصطبة مع الفلاحين البسطاء.

الترف هلاك ومفسدة. انظر الفارق بينه وبين أولاده؟ ينظر إلى شعورهم المسترسلة فى دهشة ثم يعذرهم لأنهم لم يكابدوا ليلة واحدة من لياليه. لم يعرفوا غير القصور فرحمة الله على أبيه الفلاح القرارى الذى لم يشبع قط إلا من البصل الأخضر والمش.

دلو آخر من الماء. فليصب الماء صبا..

ليملأ صدره بالهواء النظيف ويفرغ صدره من هواء القاهرة الأسود المعبأ بحبر المطابع وحقد القلوب. يصمد؟ طبعا يصمد. إنه شجرة توت معمرة تصلح لكل الأزمنة وصناع القرار يعلمون أنه لا غنى لهم عن الرجل الذى فهم اللعبة السياسية فى البلد إلى حد الإتقان.

مزيد من الصابون من فضلك. الثياب ما زالت متسخة.

وحده فى المدى الأخضر وبيت بسيط يذكره بطفولته قبل أن ينتقل للعاصمة القاسية ليسكن البدروم أحيانا والسطوح غالبا ويرتدى ثيابا يجود بها المحسنون يغسلها بنفسه بالمسحوق الرخيص وينتظر تجفيفها ليذهب للدراسة. لا يملك سوى إرادة حديدية وطموح لا سقف له وثقة لا حد لها بالغد.

ولكن لماذا يشغل ذهنه بهم وقد هرب من كل شىء ليتخفف من حجم الضغوط. أغلق الهاتف ولم يبح بمكانه إلا لمدير مكتبه مع توصية مشددة ألا يتصل به إلا لأمر استثنائى. ترك قصوره وذهب لهذا المكان البدائى البسيط ليستعيد الجذور.

ولكن سحقا؟ لماذا فكر فى غسل ثيابه؟

إنها لم تكن متسخة إلى هذا الحد حينما بدأ فى غسلها. ما ارتداها إلا مسافة الطريق، وقد غسلها لأنه راق له أن يفعل ذلك. اعتبرها نزوة رجل مترف. لكن الثياب لم تزل متسخة فما معنى هذا؟ مزيد من المسحوق حتى ولو كان ربع هذه الكمية تكفيه زمان.

ولكنه غاضب. بالفعل غاضب. لماذا لا تطيعه الثياب؟

مزيد من الصابون. مزيد من دعك الثياب.

يركل الإناء فى غيظ ليسيل الماء المرغى بالصابون فى أرجاء الشرفة ثم يراوده أمل أن تجفف الشمس الماء وتخفى بقع القذارة فى الوقت نفسه. ينشر الثياب المبتلة على الحبال القديمة ويترك الباقى للشمس.

لبرهة راحت الثياب تتلاعب تحت نسائم الهواء. راح يرمقها فى وجوم ما لبث أن تحول إلى رعب. لم يدر كيف اشتعلت النيران فى الثياب المبتلة متحدية كل قوانين الطبيعة ثم راحت تحترق أمام عينيه؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *