أيمن الجندي يكتب
التعويذة الصحيحة
ذات صباح ربيعى معتدل الجو، كان الأستاذ سمير يسير الهوينا، متأملا فى أفكاره الخاصة، ومحاولا فهم العالم من حوله، والتعقيدات البشرية التى خلّفها حراك الطبقات المتصارعة. مشكلة أستاذ سمير أنه يتأمل كثيرا ولديه وقت فراغ طويل. ورأسه يزدحم بالأفكار، النفيسة والرديئة على حد سواء.
مازالت أصداء حوار الأمس تتردد فى ذهنه. حينما تحلقوا حول زميل لهم ابتاع سيارة جديدة. شرع يتلو فى فخر المزايا الخاصة بها. فسأله الأستاذ سمير عن الشىء الوحيد الذى يهمه، وهو سعرها.
حين عرف أن ثمنها تجاوز المائة ألف كاد يُغمى عليه، وقال إنها لا تساوى فى ذمته أكثر من عشرة آلاف جنيه. وحين ضحك الزملاء وجعلوه مادة للتندر فإنه أصر على رأيه قائلا فى غيظ: «ما السيارة إلا بضعة كيلوجرامات من البلاستيك والزجاج والحديد والمطاط! روحوا السوق وشوفوا تمنهم كام». وحين سخروا منه غادرهم غاضبا. لكن الفكرة فى ذهنه، ظلت فى رأسه.
كان الشارع هادئا على غير العادة، وهبّت نسمة باردة أشعرته بالانتعاش. ورمق بعينيه العصافير التى تحلق فى الهواء، خالية الذهن من شؤون البشر. لا يخدع عصفور عصفوراً آخر. لكم يحسدها على حياتها الفطرية البسيطة! ولشد ما ارتبكت حياة البشر واكتنفها التعقيد. فى البدء كان البشر يعيشون على فطرتهم. يقضون عمرهم المقسوم لهم على ظهر هذا الكوكب! يلتحمون بالطبيعة، يأكلون الثمار. يشربون الحليب. كانت الأشياء على بساطتها الأولى، فهل لم تكن حياتهم سعيدة؟ لم يكن هناك من يبيعهم الوهم.. ويبيع بضعة كيلوجرامات من البلاستيك والزجاج والحديد بأكثر من مائة ألف جنيه؟
ارتفع نفير إحدى السيارات محذرا وهو يعبر الشارع. رمق السيارة فى احتقار. يا كتلة البلاستيك الرخيصة اذهبى بعيدا عنى. وإنه ليتأمل السلع المعروضة فى واجهة المحال! أليس مدهشا أن كل هذه السلع تُباع بأضعاف ثمنها الحقيقى! ما هذا السروال إلا حفنة من القطن لا تساوى بضعة جنيهات، وها هو ذا معروض بأكثر من مائة جنيه. وهذه العمارات الشاهقة ما هى إلا حفنة تراب ورمال، ورغم ذلك لا يقل سعر الشقة عن نصف مليون جنيه.
توقف الأستاذ سمير مذهولا. لقد اكتشف أنه يحيا وسط نصابين يخدعونه فى كل لحظة! آه لو يعرف التعويذة الصحيحة التى تجعل الأشياء تعود لأصلها وتعيد الدنيا إلى بساطتها الأولى. لقد جرب منذ أيام تعويذة وفشلتْ، لكنه لم يفقد الأمل بعد. يقينه أن التعويذة الصحيحة ستأتى عفو الخاطر. القوى الخفية فى الكون سوف تهمس له. وفجأة وجد نفسه يقول عفو الخاطر: «يا ترا ترا، عودى القهقرى». يرجو أن تكون التعويذة هذه المرة صحيحة!
وبالفعل هذه المرة نجحت التعويذة. وشاهد الأستاذ سمير كل شىء يعود إلى أصله. تحولت السيارة إلى بلاستيك وحديد وزجاج. وأصبحت العمارات الشاهقة كومة من رمال وحجارة. وحتى سرواله الذى يرتديه تحول إلى قبضة قطن. عادت الدنيا إلى براءتها الأولى وكف البشر عن استغلال البشر.
كل ذلك كان قميناً أن يصيبه بالسرور لولا ما حدث بعد ذلك. وجد الأستاذ سمير نفسه يعود هو الآخر القهقرى، ويتحول إلى الأصل الذى بدأ منه: نطفة وبويضة.
لقد كانت التعويذة ناجحة، ولكن يبدو أنها كانت ناجحة أكثر من اللازم!