مجموعة سعودي القانونية

أيمن الجندي يكتب | الزمارة

د.-أيمن-الجندى1

مثل كثير من أمور الحياة، بدأ الأمر كدعابة ثم انتهى بنهاية محزنة. حينما ذهب إلى الطبيب ليشتكى له من ألم مزمن فى ظهره فإن هذا الطبيب اقترح أن تكون الضغوط النفسية هى سبب آلامه المزمنة التى حيرته وحيرت معه الأطباء.

وكان هذا التشخيص هو لا شىء فى الواقع. إذ من المعتاد أن ينسب الأطباء العلة إلى الضغوط النفسية عندما يفشلون فى إيجاد سبب واضح. ولذلك فقد ابتسم باستخفاف وغادر العيادة ناوياً ألا يعاود الذهاب لهذا الطبيب أو غيره. فليحتمل هذه الآلام المزمنة كرجل ناضج مجرب يعرف أن الحياة لا تمنح وجهها بالكامل لأحد. وإنما هو العذاب مع السعادة والكدر مع الصفاء.

كان ممكناً للأمر أن ينتهى عند هذا الحد، لولا أنه وجد يده تضغط على بوق السيارة دون أن يكون هناك مبرر لما فعل. بالطبع لم يستغرب أحد المارة فمن المعتاد فى مصر أن يطلق الناس أبواق السيارات بدون داع. لكنه فى هذه اللحظة كانت لديه قابلية للتأمل. وسرعان ما وجد أنه ضغط على بوق السيارة عندما تذكر الآمال التى علقها على هذا الطبيب والمبالغ التى دفعها فى التحاليل بلا طائل. لقد طفت الذكرى فى عقله فامتدت يداه بلا وعى لتضغط على بوق السيارة فى احتجاج.

قاد صاحبنا السيارة كمن يمسك بدفة سفينة تبحر فى محيط هائج الأمواج. وتداعت لديه ذكرى قديمة، عندما كان طفلاً صغيراً كانت لديه «زمارة» أشبه بالبوق. وكان يشعر بالراحة كلما نفخ فيها وأصدر هذا الصوت المزعج الذى يشبه الاحتجاج.

يذكر أيضاً أنه كان يفعل ذلك كلما أحس بظلم يقع عليه، ظلم يعتقد أنه ليس عادلاً ولم يكن يستحقه، كأن يضربه معلم المدرسة عقاباً على ذنب لم يقترفه، أو علقة ساخنة من أمه، أو توبيخ شديد اللهجة من أبيه، أو مضايقات من زملائه، أو مصروف يُحرم منه أو أى شىء مما يكدر الإنسان ويجعل حياته كئيبة، فإنه كان يعمد بصورة تلقائية إلى الزمارة فينفخ فيها ويشعر بعدها بالارتياح.

لو كان صاحبنا يسكن فى بلاد يُعامل فيها الإنسان كإنسان ربما لم يشعر بالاحتياج إلى تلك الزمارة. ولكن لأنه كان يعيش فى بلاد يسكنها الحزن فإن صوت الزمارة المزعج كان يرتفع فى البيت باستمرار. الأمر الذى أزعج والده فكسرها ومنعه من شراء واحدة جديدة. ثم توارت هذه الذكرى السيئة مع غيرها من أركام الذكريات.

إذن فتفسير الطبيب لا يخلو بالفعل من وجاهة، وربما كانت الضغوط النفسية بالفعل هى السبب فى كل هذه الآلام.

فى طريقه إلى البيت ضغط صاحبنا بوق سيارته عشرات المرات. مرة حين تذكر شجاره مع زوجته. ومرة حين تذكر عصيان أبنائه لأوامره. ومرة لأن البائع استغفله وغالى فى سعر بضاعته، ومرة حين تذكر زميلاً حقيراً، ومرة حين تذكر مديره فى العمل، ومرة ومرة ومرات.

قبل أن يدلف إلى المنزل كان قد قرر أن يشترى زمارة. لم يبال بنظرة الدهشة على وجع البائع حين نفخ فى الزمارة بأقصى قوة فى المحل، فالتفت إليه من تصادف وجودهم بدهشة واستنكار.

منذ ذلك الحين أصبح صاحبنا لا يستغنى عن زمارته. لم يعد أبوه موجوداً ليمنعه. فى بيته ينفخها بقوة أو فى الشارع أو حتى فى العمل. حتى لو كان الثمن نظرات الدهشة وكلمات الاستهزاء.

 

المصدر:المصرى اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *