مجموعة سعودي القانونية

أيمن الجندي يكتب | العالقة بين الأزمنة

د.-أيمن-الجندى1

اختفت مارى تماماً.

شاهد العيان الوحيد «جاك»، وزميلها فى الصف الجامعى، أخبر أنها كانت تحتضن ذلك الكتاب عن العهد الفيكتورى، وقد بدت حالمة أكثر من الطبيعى. وراحت تحدثه عن مساوئ عصرنا الذى يُعامَل فيه الإنسان كآلة. كانا يسيران فى ممر هادئ يصل بين مبنى الجامعة ومساكن الطالبات، ثم فجأة دخلت فى دوامة من التشنجات المتتابعة. كان المشهد مخيفاً وأصعب من أن يحتمله الفتى الغض. وتحير جاك بين أن يظل معها أو يهرع طلباً للنجدة، ثم فقد الوعى لبضع ثوان كانت كافية لكى تختفى مارى.

«شارلوت» كانت تشعر بضجر شديد هذه الأيام. فليالى شتاء عام 1870 كانت طويلة حقاً. ولم يكن هناك ما تراه إذا فتحت الباب سوى التماع القمر البارد على الجليد الأبيض. ولولا حكايات «المس» لما تحملتها. يسمونها «المس» بدون أى اسم آخر. لا أحد يعرف اسمها، ولا من أين جاءت. يقول والدها إنه شاهدها فى غيبوبة ملقاة على الجليد، ولولا أنه حملها إلى داره لكانت حتماً فى عداد الأموات.

«لا يمكن أن تعرف الحياة الاجتماعية لعصر ما من خلال كتب التاريخ. فهؤلاء المؤرخون لا يدوّنون إلا الحروب وأسماء الملوك والتحولات الكبرى. أما الصخب الدافئ بين جدران البيوت والسمر البرىء جوار المدفأة وحكايات البنات حين ينفردن ببعضهن فلا تجد له ذكراً فى كتب التاريخ».

كانت تلك هى مقدمة البحث المطلوب من مارى عن الحياة الاجتماعية فى العصر الفيكتورى، وقد أثارت الكثير من الإعجاب.

«المس» لها حكاياتها العجيبة. منذ أن حملها أبوها إلى دارهم فى ضواحى لندن فإنها لم تغادره قط. واندمجت فى حياة البيت وساعدت فى تربية الأطفال. فى الحقيقة هى تُعتبر بمثابة الأخت الكبرى لشارلوت. ولها حكايات تقصها عليها فى الأمسيات الطويلة حين لم تجدا شيئاً تفعلانه سوى الحكايات.

القدماء كانوا يسمون «الصرع» بالمرض المقدس. وحين يبدأ التشنج فإنه يبدو كمن يتصل بالسماء. يعرف أسراراً لا قبل للبشر بها. وحين تنتهى النوبات فإنه يدخل فى شبه غيبوبة، متصلاً بعوالم الأسرار. بالطبع بدد العلم هذه التفسيرات الرومانسية، لكن أول تحذير يلقيه الطبيب على مسامع مريضه أن التوقف المفاجئ عن العلاج قد يؤدى إلى نوبات لا يمكن السيطرة عليها قد تنتهى بالموت.

لم يعرف أحد أن مارى توقفت عمداً عن تناول العلاج، لكنها بالقطع لم تكن تهدف أن تموت.

«وسيأتى زمن يشاهد فيه الناس ما يحدث فى القارات الأخرى فى اللحظة نفسها. وستمسكين بلوحة تمكنك من الاتصال بأصدقاء على بعد آلاف الأميال. وستشاهدين على جدار حياة الناس كاملة وهم يحبون ويكرهون».

هكذا راحت تصغى متسعة العينين إلى نبوءات المس الغامضة. وأفلتت منها آهة عميقة. وقبل أن تظهر شغفها قالت «المس» فى نبرة حاسمة: «ولكنهم لن يكونوا سعداء».

توقف جاك عند الممر. فى البقعة التى اختفت فيها مارى بالضبط. كان يفيض بالهدوء واللون الأخضر والسلام العميق. كانت مارى حالمة! لا تنتمى لهذا العصر الذى يعيش فيه الإنسان كآلة. تحلم بأزمنة يعيش فيها الإنسان كإنسان. أحياناً تخطر على باله فكرة مجنونة. إنها سافرت إلى الزمان الذى تحب، فى العصر الفيكتورى الذى كانت تعشقه. لكنه سرعان ما ينفض هذه الفكرة غير المعقولة ويمضى فى طريقه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر:الشروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *