لا أذكر كم من المرات ركبت الطائرة دون أن أشعر بخوف. كنت دائماً أصل فى اللحظة الأخيرة. وأنشغل بوزن الحقائب ومحاولة اللحاق بالطائرة. ثم أركب شارداً فى مقعدى الذى يتصادف غالباً أن يكون بجوار امرأة بدينة. وأقضى الرحلة محاولاً ألا أصطدم بأطرافها الوفيرة، وغالباً ما تنتهى الرحلة قبل أن أهضم أننى محلق فوق السحاب، لا ضامن لسلامتى سوى قانون واهٍ من قوانين الطبيعة.
هذه المرة جئت مبكراً. ولأول مرة أركب شركة طيران خاصة. لذلك وجدت نفسى مجبرا على التساؤل عن ضمانات السلامة. خصوصا وقد بدت الطائرة أصغر كثيراً من أن تصمد لتيارات الهواء فى الغلاف الجوى.
كان الجو حاراً بشكل لا يُطاق. وحين تأفف الركاب أجاب المضيف أن التكييف سيعمل حين تصعد الطائرة. وقد بدا ذلك جديراً بميكروباص لا بطائرة. وبدأت أشعر بالتشاؤم والخطر. وحين ارتفعت الطائرة بمناورة خرقاء من الكابتن الذى تخيلته قائداً لطائرة رش على الأكثر.
ونظرت إلى الوجوه الشاردة من حولى فلم يبد أن أحداً يشعر بالخطر. برغم أن كل ما فى الطائرة راح يهتز! جسم الطائرة، الأبواب، المقاعد. وبدأت أستعيد ذكريات الليلة الماضية.
كنت قد خرجت مع أحد الزملاء لاستكمال مستلزمات السفر. وجلست أنتظره على أحد المقاعد. وبجانبى رجل له لحية صغيرة ومظهر غامض. وجرى بينهما حديث عابر لكنه سرعان ما اتصل. شىء ما يعتمل داخلى جعلنى أنحو بالحديث إلى مجرى آخر. تصاريف الحياة الغامضة التى لم أفك طلاسمها بعد. كان عقلى يصطخب بالأفكار حول الحياة وجدواها. هل حياتنا جليلة أم تافهة؟ إذا كانت جليلة فلماذا تُسيّرنا الحوادث كريشة فى مهب الهواء ويكون للصدفة هذا الشأن الخطير فى تحديد مسارنا؟ وإذا كانت حياتنا تافهة فلماذا جعلنا الله خلفاء الأرض وأعطانا تلك المواهب؟
وبدأ الرجل يتكلم ببطء. أخبرنى عن الأقنعة التى يرتديها الكون من أجل إخفاء جوهره الأسمى. وما علينا إلا أن نتبع الإشارات ونثق بحدسنا حتى ننزع أقنعته الملونة واحداً بعد الآخر.
وفجأة دون سابق إنذار أمسك بكفى. وقال عفو الخاطر: «هذا خط العمر». ثم بتر كلامه فجأة. وراح يتأمل خطوط كفى المتشابكة فى شبه وجوم. ثم سرعان ما ترك يدى وراح يتحدث بمرح مفتعل.
وانقطع فجأة سيال أفكارى. وانتبهت أن نفسى ضيق، وأننى أوشك على الاختناق فعلا. فهل الجو حار والتكييف لا يعمل؟ أم أن هناك نقصا فى الأكسجين فى هذه الطائرة البائسة؟ وسألت من حولى فلم أجد صدى لهذا الذعر الذى ألمّ بى فجأة. وعدت إلى أحداث الأمس أستعيد ذكرياتى.
حدقت إلى كفى فوجدت الخط الذى أشار له منقطعاً. ابتسمت قائلاً :« لو كان هذا خط العمر فعلاً فهذا معناه أننى سأموت قريباً جداً». وقرأت فى عينيه أننى أصبت الحقيقة. لكنه أشار إلى خط آخر وقال هذا هو خط العمر. وفهمت أنه يكذب فقال لى وهو ينظر فى عينى مباشرة: «أتصدق أن أحداً يقرأ الغيب حقا؟». قلت: «كلا ولكن حدس وإشارات!».
واهتزت الطائرة بعنف! ورأيت نفسى كما هى فى الحقيقة: طافٍ على سطح الهواء لا يفصلنى عن الموت إلا قدر غامض. فهل ستصل الطائرة بسلام؟ أم هو الموت الذى طال انتظاره؟ وشرعت أحدق فى كفى أستنطق خط العمر! ترى ماذا تخبئ لى أيها القدر الغامض؟