أيمن الجندي يكتب | رسائل المحبة
تحسست الخطاب فى شغف دون أن تفضه. لفتح الخطابات لديها طقوس لا تتغير. تتحسس الغلاف الخارجى بيديها الصغيرتين. تتعرف عليه! تخاطبه! تنقل إليه كل مشاعر المحبة التى تدخرها فى روحها البرية الموحشة. ثم تبدأ فى فتح الغلاف برفق. تستخلص الورقة المطوية المشتملة على كل ما هو نبيل وغال فى حياتها. تقرأ الخطاب بسرعة. ثم تعاود القراءة فى بطء وكأنها تختزن الكلمات فى قلبها. تغلق عليها أطراف الصدفة. يتحول الخطاب إلى لؤلؤة ثمينة غافية فى مهدها.
لطالما حاول أن يقنعها بأن تتحول المراسلة بينهما إلى البريد الإلكترونى. لكنها رفضت فى إباء وقد أوشكت على الغضب. كيف تستبدل الذى هو أدنى بالذى هو خير؟ هذه الدقات الآلية على لوحة مفاتيح، كيف تغنى عن الكتابة بعصارة الروح ودماء القلب؟ تحمل كل كلمة رعشة صاحبها وهو يدونها على ورقةٍ، هى فى الأصل شجرة ثمينة سقاها المطر القادم من السماء مباشرة؟ وهذه الرسالة الإلكترونية الباردة كيف تغنيها عن رائحة الغلاف المفضوض والحبر الغالى؟ تتراكم الخطابات مع الزمن! تبقى شاهدة على أوقاتها السعيدة!
منذ البداية وهى تعرف أنها مختلفة. مختلفة فى تكوينها وفى حساسية روحها. ورثت التحدب والتقزم عن والديها. تسربت إليها البصمة الجينية كقدر لا حيلة لها فى اجتنابه. منذ البداية كانت تعرف أن فرصتها فى الزواج شبه معدومة. فى طفولتها ومنذ أدركت أنها مختلفة تضاربت مشاعرها صوب والديها. كانت أحيانا تشعر بالسخط عليهما! لماذا أنجباها وهما يعرفان كم ستعانى فى الحياة! أهى الأنانية أن يتظاهرا أنهما-كالآخرين – قادران على الإنجاب وحيازة طفلة! لكن بمجرد أن ماتت أمها حتى تدفقت مشاعرها على أبيها الحبيب وكأنها تكفر عن سابق مشاعرها السيئة.
راحت ترمق فى حنين تل الخطابات القديمة المتكدسة. لم تتخلص من خطاب واحد. وكيف يطاوعها قلبها أن تفعل وقد أنقذتها هذه الخطابات من الجنون والاكتئاب أو ما هو أسوأ! والدها المرح، الراضى بأقداره. الذى لم يشعرها يوما أنها أقل من غيرها أو أن هناك شيئا لا تستطيع أن تفعله. والدها الصغير القصير، المبهج كالشمس، الرقيق كالقمر، اللطيف كالنسائم. وصديقها الأوحد لعشر سنوات لاحقة. استيقظت من نومها فوجدت البيت هادئا على غير العادة. أحست بانقباض مفاجئ وكأنها تتوقع مصيبة. لم يخطر على بالها أن أباها استغرق فى النوم أو خرج من البيت لمشوار طارئ. أدركت منذ اللحظة الأولى وهى تدلف فى رعب إلى غرفته أنه ميت!
وقتها ظهرت الخطابات فى عالمها. تذكر جيدا حين تلقت الخطاب الأول. من مرسل مجهول دقيق الخط أخبرها أنه يحبها. وأنه يتابعها فى إعجاب ويعشق طلتها. كانت يداها ترتجفان وهى ترد عليه. شكرته فى البداية على إعجابه برغم أنها لا ترى نفسها جديرة بالحب! ولكنه رد عليها فى غضب. وأقسم عليها أن تتأمل صورتها فى حدقتى عينيه، ووقتها ستدرك أنها أجمل امرأة فى العالم.
وهكذا استمرت المراسلات بينهما. غزل برىء من جانبه وحب عفيف من جانبها، عمرا بأكمله دون أن تحدث الخطوة التالية. أحيانا كانت تفكر ساهمة! وأحيانا كانت ترتاب فى الأمر. وحين تتأمل الخطابات كان يراودها إحساس مزعج أن خطه متشابه كثيرا مع خطها، وكأنها هى التى كتبتها! ولكنها سرعان ما تطرد الخاطر بسرعة. طالما أن الخطابات موجودة وتؤنس وحشتها، فهذا هو الشىء الوحيد المهم لديها.