أيمن الجندي يكتب | «عرفة»
اختفى عرفة تماما. كان الأمر كارثيا لعائلتى. فهذا الطفل الذى يخدم فى بيت جدتى كان يُعتبر أمانة لديهم. كانت لدى نظريتى الخاصة. ولكنى لم أبح بها مطلقا ولا أدرى السبب. ربما هو الخوف الكامن فى نفوس الأطفال. من المؤسف أننا لا نسجل مشاعرنا فى هذا الوقت وإلا لأدرك الكبار الكثير ممن يجهلونه عن مخاوف أطفالهم.
«عرفة» كان صديقى المُفضل. انعقدت صلة حميمة بينى وبينه. كنا تقريبا فى العمر نفسه. ولكنه كان أكثر منى حيلة ويمتلئ بالحيوية. ولا عجب فقد عركته الحياة ونزل إلى العالم الحقيقى مبكرا.
كان بيت جدتى يخيفنى. البيت من الطراز القديم ذى الغرف الواسعة والأسقف العالية. وحتى الأثاث كان منطبعا بالعراقة والقدم. وكانت فيه أشياء تخيفنى. ساق خشبية كانوا يضعون فيها حذاء جدى الذى كان ضابطا كبيرا فى الشرطة! مرآة طويلة ذات إطار خشبى له ثقل وهيبة! وكانت صورتى المنعكسة فى المرآة تبدو لى غريبة، وكأنها لا تخصنى. وتختلف بالتأكيد عن صورتى المألوفة فى مرآة بيتى. وسمعت من خالتى مرة أنها قطعة أثرية تنتمى إلى عهد بعيد موغل فى القدم.
كنت أتجنب دخول هذه الغرفة. ولكننى حين أدخل كنت أقف بالساعات أمام المرآة، متأملا صورتى. وأتساءل: لماذا حين ابتعد اقترب؟ وحين اقترب ابتعد؟ وهل يوجد وراء السطح المصقول، الأشبه بمغناطيس، طفل يحاول أن يقنعنى أنه أنا؟
وفى ليلة نمت فيها فى بيت جدتى، استيقظت فجأة والظلام المطبق يحيط بى من كل ناحية. كان كل من فى البيت نائما باستثنائى أنا. ومضيت أتعثر فى الأشياء من حولى. ذهبت إلى غرفة المرآة بأثاثها الثقيل وطرازها الممعن فى القدم. وعلى انعكاس ضوء المطبخ القادم من بعيد شاهدت صورتى، ولا أدرى ماذا دهانى! كنت كالمأخوذ تنتابنى مشاعر مُضخمة. كنت كالمذهول الذى وقع عليه سحر ما! وأحسست بشىء يجذبنى إلى المرأة وكأننى أوشك أن أقتحم السطح اللامع وأصبح داخله. هل حدث ذلك حقيقة أم لا؟ هل كان حلما صدقته حين استيقظت؟ ما أذكره أن نصفى أصبح داخل المرآة ونصفى خارجه! وفى آخر لحظة تغلب خوفى الغريزى على شجاعتى الطارئة واندفعت خارج المرآة عائدا إلى سريرى.
هل حدث ذلك فعلا؟ ما أذكره أنه فى الصباح التالى، وفى ضوء الشمس الباهرة، بدا الأمر كحلم سخيف لا يمكن تصديقه. ولكن عندما اختفى عرفة دون تفسير استعدت الحلم واستعدت التساؤل. كان عرفة أجرأ منى بكثير، له قلب جسور وجسد مندفع. ولا شك أنه لاحظ غرابة أطوار هذه المرآة العتيقة. ولا شك أنه تأمل صورته مثلما فعلت واستغرب انعكاساتها. فهل امتصه سطحها المصقول كما حاول معى؟ وهل تغلب فضوله على خوفه فاكتمل دخوله وأصبح داخلها؟ بعبارة أخرى هل عرفة داخل المرآة الآن فيما يبحثون عنه فى المستشفيات وأقسام البوليس والعصابات التى تخطف الأطفال؟
لم يعد عرفة منذ ذلك الحين. ولكننى كثيرا ما أتذكره. لا أعرف أين ذهبت هذه المرآة العتيقة بعد أن ماتت جدتى! لكن يراودنى خيال جامح أن عرفة سوف يستطيع ذات يوم ما أن يخرج من عالم المرآة إلى العالم الحقيقى! فهل سيخرج طفلا كما دخله؟ وهل إذا قابلته سأعرفه؟ كلها أسئلة لا أملك جوابها. ولكننى كثيرا ما أضبط نفسى مشغولا بتأمل الأطفال باحثا فيهم عن وجه عرفة!