سارت بأقدام طرية كالمكرونة. الآن يتحدد اختيارها الأكبر. الآن يختار قلبها من يتربع على عرشه. الوليدة الأولى محتقنة الوجه من فرط البكاء. والثانية بيضاء رقيقة الملامح. أما الثالث فذكر. ولم تكن شيماء تعلم أن مستقبل هؤلاء الأطفال سيتغير.
…………..
دخلت شيماء دار الأيتام وهى ترتجف. أخيرا تحقق، الحلم الغالى وصارت على مسافة لحظات من تبنى وليدة صغيرة تتحقق بها أمومتها. وكان بجوارها زوجها طويل القامة طيب الملامح. استقبلته مديرة الملجأ بالترحاب، وقدمت تحية الضيف، التى لم تستطع شيماء أن تكملها لفرط انفعالها. أصغت إلى كلام كثير ووقعت أوراقا لا حصر لها. أخيرا ستصبح أمّا بمعنى الكلمة. الغريزة التى كانت تعذبها وتسومها سوء العذاب. أخيرا ستصبح لها طفلة تمشط شعرها وتحممها وتعلمها الكلام والمشى وتتحقق فيها أغلى أمانيها. لكم سالت دموعها وهى فى أحضان زوجها الحبيب الذى كان يعجز عن النطق رقة وتأثرا. ويقول لها بصوت هامس بعد أن يستعيد جأشه:
«يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما. إنه عليم قدير».
هذه إرادة الله يا شيماء ويجب ألا نعترض عليها. وكانت تنظر إليه فى رجاء بعينيها المبللتين فيفهم كل ما تريد أن تقوله. ويتملكه التأثر فيغض طرفه عنها.
فى العادة إذا كانت الزوجة هى المسؤولة عن عدم الإنجاب فإن الزوج غالبا يتزوج! بينما تضحى النساء بالأمومة إذا كان الزوج هو المسؤول، ذلك أن النساء –على عكس ما يُشاع- هن الجنس الأكثر مروءة وتضحية واحتمالا. لكن فى حالة شيماء فإن العكس هو الصحيح. حينما تبين وجود عيب خلقى فى الرحم يمنع شيماء من الإنجاب فإنه لم يتردد فى البقاء معها. وبطبعه العملى كان أول من اقترح التبنى. ووافقته شيماء بعد قليل من الخجل. بكت بين ذراعيه وطلبت منه أن يتزوج. لكنه كان يعلم أنها غير جادة وأن حدوث ذلك سيقتلها. كان يحبها حقا وكان لين الطباع رقيق القلب، وإن كان يخفى رقته تحت ستار من خشونة الرجولة.
وحانت لحظة اختيار الطفلة. ناقشا الأمر كثيرا وكأن رأيه أن تكون أنثى. التبنى برمته من أجلها هى، وستكون الأمور أيسر لها مستقبلا مما لو تبنت ذكرا. لكنه كان حازما غاية الحزم فى وجوب إخبار الطفلة المتبناة بأنهما ليسا أبيها وأمها الحقيقيين. ستكتشف ذلك حتما يوما ما وستكون الخسائر أكبر بكثير مما لو عرفت الحقيقة منذ بداية الأمر.
وذهبت شيماء لاختيار المتبناة. لم يخطر على بالها، وهى فى الغرفة الضيقة، الشبيهة بكل الغرف فى الملاجئ الحكومية، أنها وهى تقترب من وجه الوليدة وتفكر فى تبنيها كان مستقبلها يتغير بشدة. الأولى اسمها (منة) ومستقبلها أن تعمل خياطة. ولكنها حين اقتربت منها شيماء تحولت لمهندسة. والثانية اسمها (ليلى) ومستقبلها أنها ستعمل بائعة فى محل. لكن لو ربتها شيماء ستصبح طبيبة. أما الولد فمصيره فى كل الأحوال أن يصبح سائق ميكروباص لأن زوج شيماء استبعد الذكر.
كان هناك مصير يتحدد. الرعاية التى ستتلقاها من شيماء، والحنان الصافى وسر الأمومة القابع داخلها، كلها أشياء ستغير من حياة الفتاة إلى الأبد.
هذه أشياء لم تنتبه إليها شيماء ولا يفطن إليها البشر عادة. مستقبل إحدى الفتاتين سيتغير. ولكن من فيهما يا ترى؟