أيمن الجندي يكتب | هوجان
وصلتنى من د. خالد المغازى هذه القصة الشيقة.
لا أحد بالحى الشعبى يعلم اسمه بالتحديد. هو هوجان فقط، الاسم على مسمى، بالفعل تشابه مريب مع المصارع الأمريكى المشهور بشاربه الكث المقلوب لأسفل، مؤكدا قانون الجاذبية، جسد مصارع وقسوة مجرم كانا أكثر ما يميزانه. لمع نجمه فى أحد مواسم الانتخابات المزورة، وسرعان ما تربع على عرش الفتونة بالحارة الهادئة. قليل الكلام ربما لعدم مفارقة السيجارة لفمه، ينفذ مهمات محددة لم يفشل فى إحداها قط. يفرض إتاواته على البائعين ويُحصّل المبالغ النقدية فى لمح البصر ممن توقف عن دفع مستحقات أبو مايكل، صاحب معرض الأجهزة الكهربائية. شاهده أهل الحارة يفطر جهاراً كل شهور رمضان التى تتابعت منذ أن وطأت قدماه الحارة.
يوجد مسجد صغير لا يؤمه الكثيرون. ولكن الحال تغير عندما عيّنت الأوقاف شيخا شابا يُدعى الشيخ عماد. كان شابا واسع العلم حلو الكلام. وبالتدريج احتل مكانا بارزا فى يوميات الحارة البائسة. يتذكر البعض كيف كان اللقاء الأول بين هوجان والشيخ عماد، عندما حرّض الشيخ الشاب باعة الحى على عدم دفع الإتاوة لهوجان، وعندما نقل صبيانه الأخبار إليه جن جنونه وعزم على تأديبه علانية كى يكون عبرة. كانت صلاة الظهر قد انتهت والشيخ الشاب يغادر المسجد عندما اعترض هوجان طريقه وهو يسبه ويمسك بتلابيبه ملوحاً بقبضته فى تهديد. وعلى غير المتوقع لم يهتز الشيخ عماد وفرك المشاهدون أعينهم وهم يرون الشيخ الشاب يفك القبضة الحديدية فى هدوء ويستكمل سيره غير عابئ بهوجان الذى تجمد كتمثال الثلج.
ليلتها أصر هوجان على استعادة هيبته فتحلق صبيانه حول باب بيت الشيخ عماد وهم يتوعدون من يحاول التدخل. وانطلق هوجان كالثور الهائج يحطم باب المنزل ليواجه غريمه. مر الوقت بطيئا على أهل الحارة وهم يحاولون سماع شىء من المجزرة معلومة النتيجة سلفا ففشلوا، حتى صبيان هوجان أصابهم القلق فدخلوا يستطلعون الموقف ليجدوا زعيمهم يجلس كقط أليف. عندما اقتحم هوجان المنزل كان يحمل سلاحه الأثير: سيفاً حاد النصل يطيح بجدع شجرة الكافور فى ضربة واحدة. توقف هوجان قليلا حتى اعتادت عيناه النور الخافت ليجد الشيخ عماد منكبا على سجادة الصلاة فى سجود طويل، وقد ارتفع صوته بمناجاة باكية. وهنا ضرب الارتباك هوجان فلم يعرف كيف يتصرف. وحين انتهى من صلاته جلس هوجان أمام الشيخ كالمنوم مغناطيسيا، ملقيا يده الضخمة فى راحة الكف الممدودة كواحة بيضاء.
بدأ الشيخ عماد يعتصر الكف الخارقة فى هدوء، وقد ركز عينيه فى منتصف جبهته، وفى صوفية شفافة أخذ يتمتم بأذكار. أثناء ذلك مرت لقطات خاطفة أمام عينى هوجان. شاهد الرصاصة التى أصابت رأس والده، ورحلة الثأر التى بدأها، ثم ممارسة البلطجة: العمل الوحيد المتاح.
وعندما ترك الشيخ عماد يديه فإنه بدا خائر القوى وانصرف فى ذهول. فى الصلاة التالية فوجئ الجميع بهوجان يظهر فى المسجد خلف الشيخ عماد، وقد بدت على وجهه ابتسامة مذنبة، وسط ذهول أهل الحى. بعدها اختفى هوجان تماما. البعض يؤكد أنه قد مات، وآخرون يزعمون أنه صار من كبار الأولياء. والبعض يقسم على رؤيته فى حارة أخرى وقد عاود سيرته السابقة. واحد فقط كان يبتسم فى هدوء، ذلك هو الشيخ عماد.