أيمن الصياد يكتب | ربع قرن مضى .. فهَلَّا عرفتم أن «الجدارَ» قد سقط!
فى مثل هذا اليوم تحديدا؛ التاسع من نوفمبر ١٩٨٩ سقط «جدار برلين» ليرسم بسقوطه «خطًا فاصلا» فى التاريخ.
رغم أن ربعَ قرن كاملا قد مر، ومياه كثيرة جدا قد جرت فى النهر. ورغم حقيقة ما يمكن أن يحدثه «فيزيقيًا» سقوطُ جدار يصلُ وزنُه إلى ما يزيد على مئة ألف طن، إلا أن البعضَ بدا وكأنه ما زال لم يستوعب بعد. بما يذكرنا بأولئك الجنود الألمان الشرقيين يومها؛ يحدِّقون مشدوهين فى الجماهير تعتلى الجدارَ الذى كانت مهمتُهم لثلاثة عقود هى ألا يقترب منه أحد.
عندما زرت قبل حوالي العام Checkpoint Charlie الأثر «السياحى» الباقى من «الجدار» فى العاصمة الألمانية التى صارت «موحدة»، كانت مجموعة من الفتيات يجلسن فى المقهى القريب يلتقطن صورا Selfie بهواتفهن المحمولة، فى الوقت الذى كانت محال AGFA الألمانية البرلينية الشهيرة للتصوير الفوتوغرافى (يعود تاريخها إلى عام ١٨٦٧) قد اختفت. وكانت المقارنةُ البسيطة تعكسُ كم تغير هذا العالم.
مساء الإثنين الثالث من نوفمبر ١٩٨٦ كان Jürgen Onisseit ومعه أربعة من رفاقه الشباب الألمان «الشرقيين سابقا» يرتدون الأقنعة ويحملون معهم فرشاةً وسطلًا مليئا بالطلاء، ويغافلون الحراس ليرسموا خطًا أبيض مستقيمًا على الجدار الذى كان إجمالى طوله يصل إلى ١٥٥ كيلومترا. نجحوا فى رسم خمسة كيلومترات قبل أن تنجح كاميرات Stasi جهاز أمن الدولة الألمانى الشرقى فى إسقاطهم صباح اليوم التالى. كان هدفهم هو الاحتجاج، على الطريقة الشبابية المعروفة «طلاءٌ وفرشاة». دخل الشباب الخمسة إلى المعتقل بعد أن كانوا قد قالوا ببساطةِ الطلاء والفرشاة أن هذا «خطٌ فاصل». وهكذا حقا كان «الجدار»، كما يعرف كل من عاش تلك الفترة وتاريخها. كما كان أيضا «سقوطه» فى مساء ذلك اليوم التاسع من نوفمبر ١٩٨٩.
وتقول بقية القصة أن بين عامى ١٩٤٩ و١٩٦١ فر ثلاثة ملايين ألمانى من الشرقية إلى الغربية بحثا عن «الحرية». ولأن معظم هؤلاء كانوا من النخبة المتعلمة فقد مثل ذلك تهديدا لقدرات ألمانيا الشرقية واقتصادها فكان أن بنى الشرقيون الجدار يشق قلب المدينة وأحياءها ليحافظوا على المواطنين داخل «سجنهم الكبير».
وتقول أيضا بقية القصة إن ثلاثة عقود من الجدار، لم تمنع محاولات الفرار إلى «الحرية»، ولكنها لم تمنع أيضًا سقوطَ من سقط برصاص حرس الحدود «الشرقى» حين حاول الهروب.
وبقية القصة التى وصلت ذروتها الدرامية فى مساء مثل ذلك اليوم التاسع من نوفمبر قبل ربع قرن معروفة.
•••
قد لا يكون ثمة مبالغة فى اعتبار سقوط جدار برلين محطة فاصلة فى التاريخ الحديث. فالمدينة ذاتها كانت على الدوام «تجسيدًا» لذلك التاريخ ذاته. فيومًا كانت عنوانَ «الرايخ» وعاصمتَه الصادحة بهتافات الجماهير وخطابات الفوهرر Führer ومارشات العروض العسكرية. ثم كانت عندما انتحر هتلر «مهزوما» أن قسمتها «يالطا» Yalta Conference إلى أربعة أقسام، قبل أن تصير إلى قسمين بالمخالفة للاتفاق فى تجسيد لما صار عليه العالمُ ثنائىُ القطبين وقتها إبان الحرب الباردة.
أما الجدار (١٥٥ كم) فكان ارتفاعه وصلادته، بقدر ثبات الأسس التى كان مستقرة فى ذلك الزمان. كما كان ارتفاعه متناسبا مع ارتفاع صوت خروتشوف يلوح بحذائه مهددًا فى قاعة الأمم المتحدة فى نيويورك (١٩٦٠). وبقدر ارتفاع جاجارين «السوفيتى» فى رحلة الإنسان الأولى إلى الفضاء (أبريل ١٩٦١) ومتناسبا مع ارتفاع صوت «الجماهير» فى عصر ما بعد الاستعمار، «وما قبل السماوات المفتوحة» فى هذا البلد أو ذاك يهتف بحياة هذا الزعيم أو ذاك «الأوحد على الدوام».
ثم كان فى النهاية أن «شاخت سلطةُ الزعماء»، وتعفنت دوائرُها الحاكمة. فكان أن سقطَ الجدارُ عندما اعتلته «الجماهير» ذاتها ليعلن أن «التاريخ قد تغير».. وأن كل شىء قد تغير. وأن هذا عصر جديد، مهما أنكرنا هنا، ومهما حاول «الدبُ» هناك أن يضربَ الأرضَ بقدميه فى أوكرانيا محدثًا كثيرًا من الجلبةِ الملطخة بالدماء. فالواقعُ أن لا أحد يتحدث الآن عن مواجهةٍ نوويةٍ محتملة، كما أن الصينَ لا تبدو تتمتعُ بالرغبة ذاتها فى مناوشة الغرب التى تحركها «أحلام» فلاديمير بوتين. (ولكنها على استعداد للتحقيق مع العشرات من شركات قائمة Fortune 500 بسبب النشاط الاحتكارى فى روسيا) ثم إن واقع الحال أن الجميع الآن بات على استعداد للجلوس على طاولة واحدة للتفاهم حول «الحرب على الإرهاب»؛ شعار المرحلة السحرى. قد يتساوى فى ذلك ملف الشيشان الروسى مع ملف الأفغان الأمريكى. لاحظ أن القصة الأفغانية بدأت أصلا كعَرض من أعراض ما كان من تناطح بين القوتين العظميين. ثم لا حظ ما تسرب قبل يومين من «رسالة سرية» من الأمريكى أوباما إلى الإيرانى خامنئى حول الاهتمام «المشترك» بمحاربة «الدولة الإسلامية ISIS». نسيت طهرانُ أن هذا هو «الشيطان الأكبر»، ونسيت واشنطن أن تلك هى دولة «الثورة الإسلامية».
•••
انهار الجدارُ لتنهار معه منظومةُ التوازن الثنائى القائم على الردع «النووى». لم يعد هناك مكانٌ للحافة التى أوصلتنا إليها يوما أزمة الصواريخ الكوبية (أكتوبر نوفمبر ١٩٦٢) فى أعقاب الفشل الأمريكى فى خليج الخنازير، كما لم يعد هناك مكانٌ لحكايا حقيبة زر الإطلاق النووى السوداء المرافقة للرئيس الأمريكى. إذ لم تعد، سواء كانت حقيقية أو هوليودية الضامن الوحيد لأمن ما وراء الأطلنطى. فاللطمة الكبرى للقوة العظمى، بعد بيرل هاربر لم تأت من موسكو، كما لم يسبقُها اجتماع سرى فى إحدى قاعات الكرملين ذات المقاعد الحمراء، كما لم ينجح فى تجنبها «الخط الساخن» بين العاصمتين. إذ كان فى «أفكار عقائدية مطلقة» لشباب قادم من دول «صديقة» فى الشرق الأوسط «ما يكفى لأن تُسقط طائرةٌ أمريكيةٌ برج التجارة العالمى على شاطئ مانهاتن فى ذلك اليوم المشهود من خريف ٢٠٠١.
انهار الجدارُ إذن ليدفنَ تحت أنقاضِه منظومة الصراع التقليدى القديم. ويبدأ مفكرو السياسة فى البحث ليس فقط فيما وراء المحيط، بل فيما وراء الأفكار والمعتقدات، عن المرشح لشغل المقعد الشاغر. ثم لا يمضى سوى عقد آخر من الزمان حتى نصبح بأفعال بَعضِنَا واقعيًا فى قلب المعادلة. بعد أن دَفنت أزهارَ «ربيعِنا» المفترض رمالٌ متحركةٌ عبثت بها حماقةُ البعض وأطماعُ الآخرين، فضلا عن رياح ثأر سوداء قادمة من ماض سحيق.
•••
لم يعن انهيار الجدار «المصطنع» الوحدةَ بين جانبيه الألمانيين فقط، بل كان علامة على أن يصبح كل «مصطنع» قلقًا فى موضعه. فكما «توحدت» بلدانٌ كانت مقايضاتُ ما بعد الحرب قد قسمتها، انفصلت / استقلت بلدانٌ كانت ذات المقايضات قد رسمت حدودها. إذ لم يختف الاتحاد السوفيتى فقط، بل سرعان ما لحقت به يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وغيرهما. وكان طبيعيا أن يستدعى سؤالُ الحدود «سؤالَ الهوية»، ليصبح، خاصة مع تغيرات ديموغرافية وثقافية ناتجة عن موجات اللجوء والهجرة السؤال الأول على طاولة عالم جديد. ولم نكن بالطبع، ونحن فى منتصف خرائط التاريخ والجغرافيا ببعيدين عن أسئلة عالم تتشكل خرائطه. ها نحن قد صرنا واقعيّا، وإن أنكرنا أمام السؤال، دون أن نحاول أبدا أن نبذل أى جهد فكرى فى الإجابة عنه. ظللنا لعقود نلعن «سايكس بيكو»، ثم ارتبكنا حين اهتزت حدودُه تحت وطأة تراكم فشلنا فى إدارة «ثراءِ تنوع» تذخرُ به بلداننا. فضلا عن حماقة ساكنى قصورٍ اكتفوا بالنظر تحت أقدامهم فسحبتهم معاركهم الصغيرة إلى ما لا يطيقون. ناسين أن «معظم النار من مستصغر الشرر»، وأن اللعب بالنار، وإن كان خلف الستار، لا يضمن أبدا ألا يحترق المسرح كله بمن فيه.
•••
لم يكن سقوط الجدار «كخط فاصل فى التاريخ»، فاصلا فقط بين الصراعات القديمة والجديدة وأشكالها، بل أيضا كان نقطة فاصلة فى تاريخ الثورات وحركات الشعوب ودينامياتها. قد يعجز البعض عن أن يرى ذلك، فيحاول بلا جدوى أن يبحث عن علامات الثورة الفرنسية، أو البلشفية فيما جرى فى مصر ٢٠١١ مثلا فتضلله المعايير وأدوات القياس. هذا «خطٌ فى التاريخ». وثورات ما بعد برلين تختلف. انظروا إلى الصور «والعناوين» جيدا. هذه ثورة «مخملية»، فى الأسبوع التالى مباشرة (١٧ نوفمبر ١٩٨٩) يقودها الطلاب فى تشيكوسلوفاكيا. وتلك «برتقالية» فى أوكرانيا نوفمبر ٢٠٠٤، وهذه «أقحوانية» فى قرغيزيا ٢٠٠٥، هذه.. وتلك.. وتلك، وصولا إلى «الربيع العربى» ومن بعده «المظلات الملونة» فى هونج كونج. عالم ما بعد برلين ليس عالم ما بعد اكتشاف الفحم أو الثورة الصناعية والصناعات الضخمة، بل عالم ستيف جوبز Steve Jobs ومارك زوكربيرج Mark Zuckerberg ومقالة فى ١٤٠ حرفا على تويتر. هو عالم أبل لا جنرال موتورز.
قد لا أختلف جذريا مع أستاذ أكسفورد تيموثى جارتون آش Timothy Garton Ash فيما ذهب إليه فى كتابه المهم Civil Resistance and Power Politics من حديث حول المدى الواقعى الذى يمكن أن تصل إليه الثورات «الملونة»، ولكن لا أظن أحدا يختلف حول حقيقة أن سقوط الجدار وصورة اندفاع الجماهير عبره (من الشرق إلى الغرب) كان إعلانا نهائيا بهزيمة كل نظام يتنكر للديموقراطية، وللمشاركة الحقيقية «لا النظرية» للمواطنين / الجماهير فى رسم حاضرهم ومستقبلهم. هو بالتأكيد لم يكن هزيمة لاشتراكية ماركس وإنجلز ومبادئها العادلة، فالفلسفات باقية. ولكنه بالتأكيد أيضا كان هزيمة لكل نظام يخفى ديكتاتوريته تحت رداء الأفكار الكبرى والمبادئ النبيلة.
كان سقوط الجدار إعلانا عن أنه لم يعد هناك مكان لشاوشيسكو «الحاكم الفرد»، ولا لجدران Stasi الحديدية العالية حيث يحصون على الناس أنفاسهم تخويفا وترهيبا، كما لم يعد هناك مكان بالطبع لإعلام الصوت الوحيد أو لإذاعة تيرانا التى ظلت أربعين عاما تذيع خطابات الزعيم.
العالم واحد، والتاريخ لا يمضى إلا إلى الأمام. فهل كُنتُم تتصورون بعد سقوط الحائط، أن يظل هناك مكان للذين ذهبوا (صدام حسين أو القذافى أو مبارك.. الخ) أو حتى لأولئك الذين أتوا، أو عادوا .. أو مازالوا فى قصورهم يحكمون بالطريقة ذاتها (!)
•••
وبعد..
فخلاصة القول إذن أن ربعَ قرن مضت على سقوط الجدار. وأن الحدثَ كان بامتياز «خطًا فاصلًا» فى التاريخ. الخبرُ السيئ أن الصراعات البديلة ما بعد الحرب الباردة وضعتنا، أو كادت بديلا؛ عنوانه «الحربُ على الإرهاب». والخبر الحسن أن لم يعد هناك مجال للأنظمة المستبدة فى عالم «شبابى» جديد. فعسانا نقرأ الدرسَ «بكامله» جيدا ولا نكتفى بما يريدونه من «نصف المعادلة».