أيمن الصياد يكتب | عن «الثقافة الحاكمة» .. عودة إلى هشام شرابى (٢)
وسط واقع ثقافى عربى متراجع، لم أكن أحسب أن إشارةً إلى كتاب صدر قبل ربع قرن لكاتب غادرنا قبل عقدٍ كامل يمكن له أن يثير كل هذا الاهتمام. ولكن هذا ما كان. فبعد أن أشرت فى مقال الأحد الماضى إلى كتاب الراحل هشام شرابى عن «النظام الأبوى وإشكالية تخلف المجتمع العربى»، سألنى كثير من القراء عن الكتاب وأطروحاته، طالبين منى العودة إليه وتفصيل ما فيه.. وها أنذا أفعل.
تفصيل من لوحة للفنان محمد حجي
إن أردنا إيجازا اضطرتنا إليه المساحة المتاحة الأسبوع الفائت، فالكتاب الصادر بالانجليزية عام ١٩٨٨ بعنوان Neopatriarchy: A Theory of Distorted Change in Arab Society يشرح كيف تتماهى الصور بين الأب فى العائلة، والمدير فى الشركة، والحاكم فى الدولة، فى «بنية ثقافية رأسية حاكمة» تتركز فيها القوة والسلطة. ويصبح فيها «رأس النظام»، أيا كان هذا النظام (من العائلة إلى الجماعة إلى الدولة) محتكرا لكل ما للمركز من هيمنة وسطوة ومسئولية مما يوجد فى نهاية المطاف ثقافة «سلطوية/ اتكالية»، تنعدم معها التشاركية كقيمة وسلوك، سواء فى الحكم أو فى تحمل المسئولية. ويعتبر شرابى المولود فى يافا / فلسطين عام ١٩٢٧ أن تجذر هذه الثقافة فى البنية الاجتماعية والسياسية العربية هو الذى أدى إلى تخلف المجتمع العربى وفشل المحاولات النهضوية والإصلاحية التى جربناها فى تاريخنا الحديث.
لا ينفى شرابى مسئولية «الإمبريالية الاستعمارية» عن تعزيز السلطة الأبوية التقليدية (بتحديثها) وذلك باستدعاء الأصولية الدينية كإطار جامع «وحيد» للمقاومة، فى مواجهة «التغريب» الذى ارتبط فى الذهن الجمعى ومازال فى أربع انتفاضات سياسية/ دينية ضد الهيمنة الامبريالية: عبدالقادر فى الجزائر ضد فرنسا، والمهدى فى السودان ضد بريطانيا، وعمر المختار فى ليبيا ضد إيطاليا، وعزالدين القسام فى فلسطين ضد الإنجليز. وفى ظنى أن ذلك الاستدعاء الجمعى، الفطرى والصحى «والضرورى» كان ينقصه جهد ثقافى مواز، يأخذ الأفكار الأصولية العظيمة إلى رحاب المستقبل، متحررا من «عبودية النقل» ومحفزا للعقول على الانطلاق فى عنان التفكير. بل «وإعادة التفكير». وهو الأمر الذى لم يكن مرحبا به أبدا فى ظل ثقافة أبوية حاكمة.
يُعرف شرابى مفهومه للمجتمع الأبوى بأنه «نوع محدد من البنية الاجتماعية/ السياسية.. ذات سلــَّم قيم وخطابات وممارسات مركزية واحدة ومتشابهة». معتبرا أن «الأبوية هى سمة العلاقة الاجتماعية المركزية للتشكل الاجتماعى السابق على الرأسمالية». ودون الإغراق فى تعريفات نظرية من الطبيعى أن تكون لغة كتاب أكاديمى هكذا، يمكن توضيح الفكرة بأنها تصف ثقافة لنظام اجتماعى/ سياسى يقوم على علاقات «رأسية» لا تسمح بالتفكير أو النقاش. يخضع فيها الأدنى للأعلى، أى الصغير للكبير والمرؤوس للرئيس والمقلِد للمقَلد.. وهكذا. نستحضر فيها واقعيا وربما بلا وعى صيغة البيعة القديمة، حين كان يعاهد المبايعُ أميرَه «على الطاعة، وعلى أن يسلم له النظر فى أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه فى شيء من ذلك…» ومن ثم تصبح تلك العلاقات «الرأسية» بديلا فعليا (دعك من نصوص الدساتير) لثقافة معاصرة تقوم على علاقات «أفقية» تعرف المساواة فى الحقوق والواجبات وتحرص على تكافؤ الفرص لجميع أفراد المجتمع دون اعتبار لجنس أو أصل أو معتقد أو طائفة أو عشيرة.. أو انتماء سياسى. وتعرف حقا معنى أن يكون «الناس سواسية كأسنان المشط».
يعطى شرابى فى كتابه لبنية العلاقات داخل الأسرة العربية، ولنظام التعليم حظهما من التحليل والمسئولية عن تعميق ثقافة «النظام الأبوى» تلك. مشيرا إلى النمط الاجتماعى السائد للتنشئة والذى يرتكز على العقاب البدنى والترهيب والترغيب والحماية والطاعة والامتثال والخوف. معتبرا أن الأب يضطهد الصبى بينما تقوم الأم بمسح شخصيته عن طريق الإفراط فى الحماية. والأمران فى رأيه يؤديان إلى شعور الأبناء بالعجز والاتكالية والتهرب من المسئولية، تحت مظلة علاقة «أبوية» تقوم على التسلط والسيطرة.
أما التعليم الذى اعتدناه قائما على التلقين فهو يخاصم منطق الاقناع، ولا يعرف «التفكير النقدى» فالتلميذ لا رأى له «والإجابات النوذجية» هى المعتمدة، ويجرى بيعها على قارعة الطريق. كما أن العصا لا تفارق يد المعلم كوسيلة ضبط، بل إنه أحيانا يستخدم أكثر أنواع العقاب مذلة، «الصفعة». (عندما كان أبنائى فى مراحلهم التعليمية الأولى، كان بين أولياء الأمور من يشكون إلى «الناظر» المدرس الذى لا يستخدم العنف الكافى «لتربية» الأطفال) هى إذن «الثقافة الحاكمة»، المتمكنة من «العقل الجمعى». لا حظ ما يشيع فى المأثورات الشعبية عن «الكرباج / السوط كوسيلة مثلى للحكم».
والقضية فى جوهرها ليست فقط عصا فى يد مدرس أو سوطا فى يمين حاكم. بل هى فى إسباغ البعد القيمى «الأبوى» على مايبيح ذلك من علاقة سطوة وسلطة واحتكار للحكمة … والحاصل أن الثقافة تلك ذاتها، وإن اختلفت التفاصيل تجد مكانا لها فى ثقافة الدوائر الأكثر اتساعا، عشيرة كانت أو جماعة أو نظاما سياسيا. بل ويصل التماهى ــ كما ذكرنا من قبل ــ إلى درجة استخدام المعجم اللغوى ذاته. جربنا ذلك واضحا أيام السادات «أب العائلة المصرية».. الذى يصبح بالتالى من «العيب» مخالفته.
إلى أى مدى يمكن لنا أن نقرأ ما قاله هشام شرابى فى واقعنا العربى الحاضر؟ الأمثلة أكثر من أن تسمح بها المساحة المخصصة لهذا المقال. وكنا على أية حال قد عرضنا لبعضها الأحد الماضى. بل ولعله لا مبالغة فى القول بأن ما تشهده منطقتنا الآن من انهيار وبوادر تفكك إنما يعود فى حقيقته إلى ضعف بنيوى فى تلك المجتمعات «السلطوية» بعد أن غابت عنها التشاركية الضرورية لإدارة التنوع. ثم كان فيما بعد الثورات أن أدى الداء ذاته الذى لم تكن جماعات الإسلام السياسى بمنأى عنه إلى إحباط مسارات تلك الثورات، والنهاية بها إلى ما انتهت إليه.
•••
لأسباب عديدة، أبرزها إقامته شبه الدائمة فى الولايات المتحدة ودراساته التى يغلب على معظمها الطابع الأكاديمى الرصين، لم يكن هشام شرابى المفكر الفلسطينى البارز الذى رحل عنا عام ٢٠٠٥، حاضرا بقوة لدى جماهير العالم العربى التى أمضى معظم سنوات عمره فى الكتابة عن مشاكلها والأسباب التى تحول بينها وبين التقدم. وكمثقف وأكاديمى وعالم اجتماع، كان الرجل قد تعمق فى التنظير لأزمات المجتمع العربى وإشكاليات التقدم والتخلف وعلاقة المثقف بالسلطة. مجملا رؤيته فى كتابه هذا عن النظام الأبوى «السلطوى» باعتباره أحد الأسباب الرئيسة للتخلف.
وأخشى أن أقول إن مطالعة الكتاب بالنظر إلى كل ما يجرى حولنا، يجعل الحديث عن إمكانات تغيير هذا النظام الأبوى إلى النظام الديمقراطى يبدو مستحيلا طالما ظلت قيم المجتمع الأبوى الرأسية تلك متجذرة فى «الثقافة الحاكمة». وطالما ظل الأب والخليفة والأمير والرئيس هو الأساس فى بنية هذا المجتمع. الذى أدمن إخفاء عوراته، مستريحا لإلقاء مسئولية تخلفه على الآخرين، عاصمة غربية، أو قوى غيبية.. أو مؤامرة.
أيا ما كان الأمر، فالحاصل أن أطروحات شرابى مثلها مثل أطروحات صادق جلال العظم وقسطنطين زريق فى حينه، والتى حاولت تفسير «النكبات» العربية المتتالية فى «أمراضها المتوطنة» لم تلق هوى عند كثيرٍ من المثقفين/ السياسيين العرب الذين كانوا قد ألفوا ما اجتروه لسنوات من مقولات تبرئ الذات، وتلقى باللائمة «كل اللائمة» على الغرب الاستعمارى وأفكاره «المستوردة». سواء أولئك الذين كانوا قد توقفوا عند زمن الأفغانى ورشيد رضا، أو الذين، بوعى أو بدونه، كانوا قد أصبحوا رديفا لأنظمة «وطنية» ورثت فى النهاية للأسف استبداد المستعمر، غافلة عن أن «التحرر الوطنى»، لا يكتمل أو يتحصن إلا بتحرير الفكر وحرية المواطن.
•••
ثقافة تبرئة الذات «واتهام الآخر»، تجلت قبل أيام فى تصريح رسمى يرفض مطالبة أوروبية للسلطات المصرية باحترام حقوق الإنسان «المصرى»(!) وكالعادة تحدث البيان الرسمى «شديد اللهجة» عن السيادة الوطنية، ناسيا أن السيادة «الحقيقية» لا تتحقق إلا بسيادة المواطن فى وطنه. وأن سيادة المواطن فى وطنه لا تتحقق إلا بالتزام «حقيقى» من سلطات الدولة بنصوص دستورها وحقوق مواطنيها الذين هم «متساوون فى الحقوق والحريات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة … أو المستوى الاجتماعى أو الانتماء السياسى» المادة ٥٣.
معذورون دبلوماسيو هذا الزمان. والمطالبون بإخفاء مالم يعد ممكنا إخفاؤه أو التغاضى عنه فى زمن المعلومات الجارفة، والسماوات المفتوحة.
معذورون دبلوماسيو هذا الزمان، عندما لا يجدون فى معجمهم غير هذه اللغة القديمة فى منطقة طمرت حدودها «الوطنية» واقعيا رمال الطائفية وسنابك خيل «القبيلة».
الحديث عن «السيادة» هكذا فى السياق الذى جاء فيه، يذكرنا للأسف بحديث مشابه كنا سمعناه من معمر القذافى، والذى تعْرف أسوارُ السجون وأسرارُ «السراديب»، كيف كان قد مارس «سيادته» على الليبيين «والليبيات» فى سنواته التى طالت إلى أربعين.
كما يذكرنا الحديث عن «السيادة» فى مواجهة مطالبات «الآخرين» باحترام حقوق الإنسان، بمشهد تعرفه شوارعنا «العربية كلها» حين يكاد أحدهم أن يفتك بصغيره رافضا أن يتدخل أحد من المارة قائلا: «ابنى.. وأنا حر فيه» فى تعبير موجز بالعامية المصرية يكشف عمق ما ذهب إليه أكاديمى جورج تاون «هشام شرابى» قبل ربع قرن من الزمان.
أتفهم، وأقدر «وطنية» هؤلاء الغيورين على «السيادة الوطنية»، ولكننى أرجوهم أن يتذكروا أن لا سيادة لوطن دون سيادة مواطنيه. وأن أكثر ما يهدد سيادة الوطن هو إهدار حقوق الإنسان والاستهانة بسيادة المواطنين، والفشل فى إدارة الاختلاف والتنوع الذى هو من سنن الله فى خلقه.
الاستبداد لا الحرية هو الذى يهدد سيادة الوطن، بل وحريته. اقرأوا فى التاريخ القريب ماذا فعل البشير بالسودان، وصدام ومن بعده المالكى بالعراق. أرأيتم ماذا جرى فى اسكتلندا قبل يومين. لم يُتهم المطالبون «بالانفصال» بالخيانة وتهديد «السيادة الوطنية» لبريطانيا العظمى، بل ذهب الجميع، هؤلاء وأولئك إلى صناديق الاقتراع. لم يعاقِب هذا ذاك على رأيه. كما لم يحدث العكس. لم يتحجج الجالس فى «١٠ داوننج ستريت» بأنه صاحب السلطة والقرار. وأن بإمكانه أن يرفض الذهاب إلى الاقتراع، كما لم يقلب صاحب دعوة «الاستقلال» الطاولة بالقوة، بل أخذ قراره المنطقى بالنزول على رغبة الناس (٥٥٪) والاستقالة.
•••
وبعد..
فهذا استكمالٌ لمقال الأحد الفائت، يُقرأ فى سياق ما كان قد أورده من وقائع حاضرة وماثلة أمامنا كل يوم من تجليات لثقافة «سلطوية رأسية» نحتاج أن نبرأ منها. فهل ذلك ممكن؟
الإجابة فى كلمتين: الأمل فى الأبناء.. لا فى الآباء.
البادى واضحا للأسف أن ذوى الشعر الأبيض يرفضون التسليم بأن أيامهم خلفهم، وأن المستقبل لجيل جديد قادم من حقه أن يكتب فى صفحته ما يشاء. يرفض «الذاهبون» أن يستمعوا جيدا إلى «القادمين» متغافلين عن مرارة ما كتبه أحدهم يوما واصفا «الكبار» فى تغريدة: «جيل أضاعنا دهرا بصمته، وهاهو اليوم يضيعنا بصوته»
لمن نسى نقول إن كل الأديان كانت ثورة على «مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا»، وكل الثورات كذلك… فافهموا أبناءكم.