أيمن الصياد يكتب | نحن.. وبوتين ـ درسُ «الجماهير»
ديسمبر ٢٠١٣: ورغم أن الحديث يومها كان عن مصائر الربيع العربى، فإننى أشرت فى البرنامج التلفزيونى إلى أهمية أن نقرأ جميعا «الدرس الأوكرانى». كان الوقت فيما يبدو مبكرا. ولم يكن الكثيرون «هنا» يعلمون، أو يهتمون بما يجرى «هناك»
٢٢ فبراير ٢٠١٤: أسقط متظاهرو ميدان الاستقلال فى كييف الرئيس «المنتخب» فيكتور يانكوفيتش. ليحاول الجميع هنا فجأة «حشر» ما جرى هناك فى مربعى «الاستقطاب» الذى بدا أننا أدمناه.
١٨ مارس ٢٠١٤: أعلن فلاديمير بوتين الرئيس الروسى المتشدد فى خطاب «أُعدت صورته بعناية» عن عودة شبه جزيرة القرم «الأوكرانية» إلى «وطنها الروسى». فى تحد واضح للغرب وللولايات المتحدة الأمريكية. ليتكرر هنا ما بدا معه أن بعض الاهتمام «المحلى» بما جرى فى تلك البلدان الباردة البعيدة قد اختلط بمشاعر «تقمص» غير صحى، وبما يعرفه علم النفس بالتفكير بالتمنى wishful thinking، مما قد يحيد بالقراءة عن متن الكتاب إلى هوامش يخطها قارئه، وعن الأمر فى حقيقته إلى ما نتمناه نحن فيه.
ولذا أرجو أن تأذنوا لى أن أعود لمحاولة القراءة فى «الدروس الأوكرانية» رغم أننى كنت قد كتبت هنا قبل أربعة أسابيع فى الموضوع.
•••
فيما أظن، ليست هذه، كما يظنُ بعضُ «محضرى الأرواح» أجواءَ الحرب الباردة، ولا استعادة لما عرفه العالمُ فى النصف الثانى من القرن الفائت، من سياقات أو زعامات أو «قامات». فالكرملين لا يسكنه «خرتشوف» الماكر؛ خليفة ستالين وخصيمه (وذو الأصول الأوكرانية بالمناسبة). كما أن البيت الأبيض لم يعد فيه من ذكرى «كيندى» الطموح الساحر غير صورة «بالأبيض والأسود»، وسؤال سيظل غامضا حول حادث الاغتيال «المتعدد» الشهير. فكل ذلك تاريخ.. وسياق، وليس فى المشهد الأوكرانى من «التاريخ»، غير أن لكل تاريخ بصماته لا أكثر ولا أقل.
انشغل البعض كثيرًا بما بدا لهم أفولا غربيًا وصحوةً «روسية»، وأحسب أن فى هذا كثيرا من المبالغة، وكثيرا من النوستالجيا. فى الستينيات كان يمكن لبريجينيف أن يذهب بدباباته إلى «براج»، دونما الحاجة إلى البحث عن مبرر، وكان يمكن لخرتشوف أن يطرق بحذائه على المنصة الأممية فى نيويورك (كما حكت النيويورك تايمز يومها). أما الآن، فخطاب بوتين احتاج إلى صندوق انتخابات «يحتج به» وإلى إرادة جماهير ذهبت إلى الصناديق لتختار. مما جعل الأمر فى جوهره لا يختلف عما جرى فى كييف العاصمة. التى أسقط ميدانها الرئيس المنتخب.
الوصف «الأدق» باختصار هو أن «الجماهير» فى شوارع كييف اختارت أن تسقط يانكوفيتش «الرئيس المنتخب»، «والجماهير» أيضا، لا غيرها فى شبه جزيرة القرم «الباردة» اختارت الاستقلال عن أوكرانيا لتعود إلى أحضان الدب الدافئة. مما قد يقارنه البعض بالتأكيد بحقيقة أن الاسكتلنديين يستعدون للذهاب فى سبتمبر القادم للاستفتاء على استقلالهم عن التاج البريطانى العريق، الذى لم تكن الشمس تغرب عنه فى الأيام الخالية.
ولعله من باب المفارقة «الدالة» أن احتجاجات كييف ضد يانكوفيتش كانت تتراجع يوما بعد آخر لولا إصداره قانونا لتقييد الاحتجاج «الجماهيرى» مساء السادس عشر من يناير ليتسع نطاق «الاحتجاج» ليطيح به.
هو عصر «جديد».. وديناميات تغيير «جديدة»، ومعاهدات «وخرائط» يكتبها ويرسمها الناس فى الشوارع وفى فضاء الشبكة العنكبوتية. دون أن تتحرك الجيوش، ودون أن يحمل «تشامبرلين» مظلته إلى ميونيخ (١٩٣٨).
هو عصر الجماهير فى الشوارع، والمنظمات غير الحكومية، وجماعات الضغط، والإعلام، وكاميرات الهاتف النقال، وشبكات التواصل الاجتماعى. وصور فى «التحرير» القاهرى تتكرر بالضبط فى ميدان «الاستقلال» الأوكرانى.
هو عصر «عولمى» بامتياز، يرتدى فيه المتظاهرون قناع «فانديتا» فى طلعت حرب، وأنقرة، وكييف وكاراكاس. ويأتى فيه النسوة من أوروبا ليدعموا غزة «العربية» المحاصرة.
هو عصر «الديموقراطية الجديدة» التى تقف على مسافة من الديموقراطية «التمثيلية» الحديثة، لتقترب، وإن بأساليب جديدة من تلك «المباشرة» التى عرفتها أثينا القديمة.
•••
درس «الجماهير» هذا عرفه الاتحاد السوفياتى نفسه عندما حاول يوما «العائشون فى الماضى» من الشيوعيين القدامى الانقلاب على «بيروسترويكا» جورباتشوف (أغسطس ١٩٩١) وأخضعوا الرجل وقتها للإقامة الجبرية، إلا أن الجماهير التى كانت قد خرجت من القمقم، نجحت فى أن تفرض إرادتها فى النهاية رافضة عودة تحالف الفساد والنفوذ والقمع «الأوليجاركيا الفاسدة». لينهار البناء الضخم «المهيب» كله فى ديسمبر ١٩٩١، بعد أن فشل «أسمنت» القمع والدعاية «الزائفة» فى الحفاظ على تماسكه. والمثير أن الدرس ذاته؛ «درس الجماهير» كان السوفيات، لا غيرهم قد لقنوه للعالم كله عام ١٩١٧، رغم اختلاف كبير فى التفاصيل يوم خرج العمال إلى الشوارع فى مايو تحت ضغط أحوال «اقتصادية» متردية ليبدأوا حركة «جماهيرية» تتسع يوما بعد يوم كاتبين السطور الأهم فيما اُعتبر كلاسيكيا من أهم الثورات فى التاريخ. وقتها لم يفلح «صوت المعركة» مع العدو الألمانى، ولا القمع الأمنى لمتظاهرى «سانت بطرسبرج» فى مواجهة الجماهير التى أتت بالبلاشفة «ووعود العدالة الاجتماعية» إلى الحكم.
درس الجماهير «المحاسبة» وصاحبة الحق الدائم فى التقرير «والتغيير» عرفه أيضا الجانب الآخر من الأطلنطى والأيديولوجيا. ففى أغسطس ١٩٧٢، وبعد أشهر فقط من انتخابه لولاية ثانية، أرغم الأمريكيون ريتشارد نيكسون؛ الرئيس ذا الإنجازات الكبيرة إلى الاستقالة من منصبه بعد أن تورط فى التجسس على خصومه. (وفى تفاصيل القصة دروس إضافية كثيرة) وهو الأمر الذى كاد يتكرر مع بيل كلينتون بعد ذلك بستة وعشرين عاما.
•••
لا أهون من قيمة الدعم الروسى لما جرى فى شبه جزيرة القرم، ولا حتى من دفعها إليه بطريقة أو بأخرى. ولكننا قد نخطئ إذا اعتبرنا الأمر كله كان مرهونا بحركة بعض الآليات العسكرية (قاعدة أسطول البحر الأسود «الروسى» كانت موجودة على الدوام فى القرم «الأوكرانية»، باتفاق رسمى مع كييف) كما نخطئ بالضرورة إذا اختزلنا القصة الأوكرانية فيما نراه على شاشات التلفزيون من صور لبوتين يخطب فى قاعة الكرملين الفخمة المهيبة، أمام صور لأوباما فى المكتب البيضاوى يجتمع متجهما مع معاونيه. فخلف الصور وشاشات التلفزيون، هناك أرقام الاقتصاد وهى هنا ضاغطة ومؤثرة، وحقائق «الديموجرافيا» ولها نصيبها (كما يجرى توظيفها) فى رسم الخرائط وتقرير المصير. فالبادى أن قضايا «الهوية» المتشابكة المعقدة، رغم ما توحده سماوات العولمة، ستظل، مع زيادة فرص السكان فى تقرير مصائرهم، وزيادة فشل الحكومات فى «إدارة التنوع» إحدى المسائل الكبرى فى القرن الحادى والعشرين. أو لعلها أحد «الأسلحة» الكبرى فى «قرن الجماهير». انظر لكل ما جرى فى أوروبا بعد انهيار حائط برلين. وانظر لكل ما يجرى استنساخه أو «استحضاره» من بطن التاريخ فى مشرقنا العربى.
فى الحالة الأوكرانية لا يمكن تجاهل حقيقة أن البلد الذى كان موحدا «فى الخرائط الرسمية» كان فى الواقع منقسما على الأرض؛ لغويا وعرقيا وسياسيا وتاريخيا فالذين اختاروا الانفصال ومن ثم الانضمام إلى روسيا أغلبيتهم الساحقة فى الواقع من الروس بالنظر إلى العرق واللغة، فى حين لدى المناطق «الأوكرانية» عرقا ولغة تاريخٌ مؤلم مع الروس (أدى القمع الستالينى للهوية الوطنية الأوكرانية فى العقد الرابع من القرن العشرين إلى مقتل أربعة أخماس النخبة الأوكرانية المثقفة).
•••
هل يعنى ذلك أنه لا قيمة «تاريخية» لخطاب بوتين الحماسى فى قاعة سانت جورج البيضاء المذهبة؟ بالطبع لا. ولكنه، بالطبع أيضا ليس خطاب خرتشوف الشهير فى الجمعية العامة (١٩٦٠) ولا خطاب كيندى الشهير فى برلين (يونيو ١٩٦٣). كما أنه ليس تدشينا أو عودة للحرب الباردة بين قطبين (تذكروا أننا نسينا ما جرى فى جورجيا ٢٠٠٨). بل هو على الأرجح تعجيل بأخذ القوى الجديدة مكانها فى عالم متعدد الأقطاب على أنقاض عالم الحرب الباردة الذى يتصور البعض عودته. عالم تأخذ فيه البلدان الناشئة سريعة النمو مكانها فى نظام عالمى جديد، إذا مضت الأمور إلى نهاياتها، وانعزلت موسكو تدريجيا عن عوالم التجارة والاستثمار العالميين. ربما لا أذهب هكذا ببساطة إلى ما ذهب إليه كثيرٌ من المحللين الغربيين الذين أوشكوا أن يقيموا جنازة لروسيا الجديدة. ولكن خروجا متوقعا لموسكو من «مجموعة الثمانية» G-8، وشكوكا قوية حول مستقبل عضويتها بمجموعة العشرين G-20، سيكون له بالتأكيد نتائجه. كما أن شيئا من الانخراط «الأحمر» فى عالم جديد «متعدد الألوان» كان قد تحقق فى «سوتشى» التى قبل فيها بوتين، وإن على مضض بعضا من ثقافة «عولمية» صادمة التنوع، سيتأثر بالتأكيد بما جرى فى القرم.
•••
وبعد..
فهل قرأنا؛ هنا «الدروس الأوكرانية» جيدا.
فى منطقتنا المضطربة تلك؛ من جبال الأوراس التى تنتظر انتخابات رئاسية «رابعة». إلى الخليج الذى لم يعد الخلاف حول اسمه على الخرائط هو الأهم، بعد أن انتقل الخلاف؛ صريحا إلى داخل «مجلس تعاونه»، مرورا بالشام «التائه» ومصر «الانتقالية»، هل قرأنا «الدروس الأوكرانية» جيدا.
أخشى أن التعصب الأعمى، وضجيج الصخب، وأصوات الانفجارات، وأسوار القصور العالية، فضلا عن سكرة «التوقع بالتمنى» ربما أنست البعض أننا فى نهاية المطاف «جزء» من هذا العالم، تحكمنا شئنا أم أبينا قواعده. وأن معادلات القوى فى هذا العالم «العولمى» الجديد باتت مختلفة. ولا علاقة لها بما عرفناه، أو بنينا عليه حساباتنا فى قرن «انقضى».. قبل أربعة عشر عاما كاملة.
فإذا كانت «حسابات الحقل ليست دائما كحسابات البيدر»، فما بالك بحسابات قرن تظنها صالحة لقرن جديد.