أيمن الصياد يكتب | هذا «الرجل».. وهذه «العائلة».. وهذا «الوطن»
كما كانت صورة هذا المشهد «الأخير» مصرية «جامعة»، كذلك كانت قصة هذا «الرجل» وتلك «العائلة». كما هى أيضًا قصة هذا «الوطن الجامع» مع الظلم والعدل.. والاستقطاب والإنصاف.. والتشويه والحقيقة.. والسجن.
بعد أشهر من وفاة باسم صبرى، وعام ونصف على رحيل محمد يسرى سلامة، وغيرهما من أولئك «النادرين» الذين لم يسقطوا فى فخ استقطاب مَرضى قسَّم هذا الشعب؛ عصبية وجهالة إلى شعبين، ودَّع الباحثون عن «العدل» أحمد سيف الإسلام، الحقوقى «اليسارى»، الذى نعاه البعض خطأ، وبسبب تشابه الأسماء والمهنة على أنه ابن حسن البنا منشئ الإخوان المسلمين.
صورة مشهده الأخير «العفوية» كانت دالة. خالد على، المرشح الرئاسى «اليسارى» الشاب يحمل النعش، وإلى يساره (لا يمينه) محمد على بشر القيادى الإخوانى «الخلوق» بشعره الرمادى، ومعهما عبدالمنعم أبوالفتوح الذى أفشلت جماعته محاولته المبكرة «للاصطفاف الوطنى».
كما كانت صورة هذا المشهد «الأخير» مصرية «جامعة»، كذلك كانت قصة هذا «الرجل» وتلك «العائلة». كما هى أيضًا قصة هذا «الوطن الجامع» مع الظلم والاستبداد والاستقطاب والتشويه والسجن. قصة الأحلام المجهضة.
***
يُعرِّف الراحل المولود عام ١٩٥١ نفسَه على موقع التواصل الاجتماعى «تويتر» تعريفًا عائليا مميزًا «جدُ خالد، وأبو سناء ومنى وعلاء، وزوج ليلى سويف». وهى أسماءٌ عرفناها جميعًا كما كان أن عرفتها شوارعُ هذا الوطن وجدرانُ سجونه وتفاصيلُ محاولاته «الينايرية» الشابة فى الإمساك بأحلامه المستحيلة.
سناء / الإبنة الصغرى، تحكى بعضُ فصول قصتها ما بات جديدا فى تعامل السلطة «الأمنية»، فضلا عن ثقافة المجتمع ذاته مع الفتيات. بعد أن لم تعد هناك للتنكيل أو للعنف خطوط حمراء، بداية من السحل المتكرر فى الشارع، وليس نهاية بأحكام «سبعة الصبح»، التى ألغتها لاحقًا دائرة الاستئناف. دخلت سناء سيف (بنت الثانية والعشرين) السجن فى القاهرة مع زميلاتها الستة (بينهن يارا سلام التى بدا أنها عوقبت على اهتمامها بالعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان لا أكثر) ليصبحن أرقاما على قائمة طويلة «للفتيات السجينات» لم يعتدها تاريخ هذا الوطن، ولا تاريخ زنازينه. تهمة سناء كما تهمة أخيها «الاحتجاج بالتظاهر على قانون للتظاهر» أصدرته، للمفارقة وبرغم أنف مواد قد تتناقض معه فى الدستور، وبرغم تحفظات لدى أعضاء فى الحكومة التى أصدرته ــ سلطة أتت بها إلى الحكم «تظاهرة كبيرة».
منى / الابنة الكبرى (٢٨ سنة) المعنية أصلا بمرض السرطان، «ابنة أبيها» كما يقول المثل العربى. تعرفها أبواب النيابات وقاعات المحاكم، أكثر مما تعرف المحامين. تكاد تحفظ عن ظهر قلب أسماء كل من لاحقته السلطة فى عهودها المختلفة من شباب يناير أو بسطاء الشارع. وفى قصتها، إن شئت تأريخ لكل ما جرى من تفاصيل.
كأبيها وقفت منى سيف (التى لم تسلم كأخيها من سياط تابعى السلطة فى «كل» عهود ما بعد يناير) مع الجميع. دون النظر إلى انتماءاتهم أو مواقفهم السياسية، فى تجسيد حى لما جُبل عليه الأنقياء من أبناء جيلها الذين لم يلوثهم «أَسرُ بيعة» أو غسيل مخ إعلامى.
أما علاء الابن الأكبر والأكثر إثارة للجدل فلعل هناك من يذكر أنه اختار لأول ما كتبه فى مدونته فور أن خرج من محبسه الأول (٢٤ يونيو ٢٠٠٦،) عنوانا يساند فيه، رغم يساريته الإخوان المسلمين «in solidarity with the brotherhood». سبوه بعد ذلك كثيرًا بعد أن اختلف معهم. ولكنه بعد أن رأى أن منهم من قد يكون مظلوما، لم يتردد لحظة فى أن يقف مع «المبدأ»، الذى تقرره بالمناسبة كل الشرائع والدساتير، بما فيها دستورنا الأخير (المادة ٩٥) والتى تنص على أن «العقوبة شخصية..» فضلا عن تلك التى تقرر بما لا يحتمل اللبس أن: «المواطنون لدى القانون سواء… لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة… أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى» (المادة ٥٣)
ولعل هناك من يذكر أيضا أن «الفتى العنيد» عاد من الخارج خصيصًا (نوفمبر ٢٠١١) ليلبي استدعاء للمثول أمام النيابة العسكرية في قضية أحداث ماسبيرو، رغم موقفه المعلن من مثل تلك المحاكمات.
كمثل ما شهدته جوانب كثيرة فى رحلة «الوطن» الصعبة، اختلط فى قضايا علاء عبدالفتاح المتعددة تجرد القانون، مع تقلبات السياسة. وتحكى القرارات المتعددة والمتباينة فى ملفاتها قصة المد والجذر والتجاذب فيما جرى من أحداث بعد الخامس والعشرين من يناير وحتى يومنا هذا. كما تحكى أوراقها بعضا من قصة تعدد وتباين المراحل الانتقالية للسنوات الثلاث. نقرأ ذلك فى ملف قضية حرق مقر الفريق أحمد شفيق المقيدة برقم ١٣٠ لسنة ٢٠١٣ كلى شمال الجيزة، كما فى قضية أحداث ماسبيرو (٨٥٥ لسنة ٢٠١١) ثم قضية التظاهر الأخيرة المحكوم عليه فيها مع آخرين بخمس عشرة سنة.
كان أبو «علاء ومنى وسناء» أبا لجيل كامل مِمَّن هم على شاكلة علاء ومنى وسناء، أحلامهم كبيرة وإحباطاتهم كذلك. ونقاء براءتهم الخالية من حقد الاستقطاب الأسود بوسع السماء. وقبل هذا وذاك وعيهم الذى لا يريد جيلنا أن يعترف به. وطموحهم «العولمى» الذى لا يدركه جيلنا الذى بدا وكأنه لم يحفظ من كتابه المقدس غير «بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا»، فعجز على أن يفكر «خارج الصندوق».
جيل يحتفظ بمفاجآته، التى كان أولها (لا آخرها كما يظن البعض) تلك الينايرية التى يحاول البعض تشويهها. جيل كامل عبر عنه أحد أبنائه (براء أشرف) راثيا «أبو علاءنا» على صفحة «مصر العربية» قبل أيام. وعبر عنه على موقع التواصل الاجتماعى «تويتر» مغردون توافقوا على هاشتاج #أحمد_سيف_الإسلام (وصل العدد حتى العاشرة من مساء الجمعة إلى ٣٣٦١ تغريدة).
***
فى حكايا هذه «العائلة»، الزوجة والأم (د. ليلى سويف) وفى قصتها صورة المرأة المستقلة استقلالا حقيقيا. وليست مجرد رقم فى «كوتة» لا تعدو أن تكون أصواتا إضافية داعمة لقرار الحزب «أو الجماعة».
أستاذة الرياضيات البحتة، وابنة «الدكاترة» مصطفى سويف رائد علم النفس وفاطمة موسى (الحاصلة على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب)، تحكى لنا قصتها أيضًا قصة النخبة المثقفة «الحقيقية» مع «النظام المتكلس» فى مختلف عهوده. كانت ليلى سويف ركنا فى حركة ٩ مارس المطالبة بالاستقلال الأكاديمى للجامعات، وكانت أحد من تعرضوا للضرب (من بلطجية النظام الأمنى) داخل حرم جامعة عين شمس مع الدكاترة عبد الجليل مصطفى ورضوى عاشور وعايدة سيف الدولة وهدى أباظة (نوفمبر ٢٠١٠). شهدت ليلى سويف الانتصار لاستقلال الجامعات بإلغاء الحرس الجامعى، واعتماد انتخاب القيادات أسلوبا «ديموقراطيا» يخرج بالمؤسسات الأكاديمية عن سطوة مخبرى الأمن وكتبة التقارير. ثم كان أن شهدت أستاذة الرياضيات كيف دارت «الدائرة» كاملة، لتعود النقطة كما تقول نظريات الهندسة إلى حيث بدأت. «فالحرم» استباحته الهراوات والأحذية الثقيلة. والديموقراطية، اعتبرها البعض لا تصلح «لأساتذة الجامعات».. ما بالك إذن بالأميين.
***
قصة أحمد سيف الإسلام وعائلته (وهى بالمناسبة قصة متكررة التفاصيل كما المرايا تحكى الكثير عن أوجاع هذا الوطن) يمكن اختصارها فى الحقائق البسيطة الآتية:
ولدت ابنته وهو فى السجن، ومات وابنته فى السجن.
عاش يدافع عن الحق فى قانون عادل، ومحاكمة عادلة، ومات وابنه ينفذ حكما «أريد له أمنيًا أن يكون غيابيا» قضى بسجنه خمسة عشر عاما بموجب قانون مطعون فى دستوريته. لتطرق القصة «المتكررة فى غير موضع» جرس خطورة العلاقة الملتبسة بين السلطة والقانون؛ تشريعًا، وإجراءات، وضمانات. حين يصبح «كله بالقانون».. فتخسر المصطلحات دلالاتها، ويخسر «الوطن».
حين يبدو للبعض أن هناك من يجيد استخدام القانون ليسبغ مشروعية على ما يريده من عصف بخصومه، فتكون النتيجة ليست فقط الإساءة للقانون؛ فكرة ورجالا، بل والعصف بفكرة «الدولة» ذاتها، التى (أكرر للمرة الألف) لا تصبح مستقرة، إلا إذا شعر الناس بأن هناك قاضيا عادلا وقانونًا «يطمئنون» للاحتكام إليهما.
وفى قصة رب العائلة أنه كان قد انضم إلى قافلة طويلة من المدافعين عن الحق، ارتدى أحمد سيف الإسلام حمد روب المحاماة مذكرا جيلنا بأسماء عرفت أن لا «وطن» بلا عدل، وأن لا عدل بلا «نظام عادل». مثل عصمت سيف الدولة وممتاز نصار وأحمد الخواجة وعبدالعزيز الشوربجى وعادل عيد وفريد عبدالكريم وكمال خالد ومحمد عصفور وعبد الحليم رمضان وحلمى مراد، وكثيرين ممن لم تسعفنا الذاكرة بأسمائهم. فضلا عن «القديس» نبيل الهلالى؛ اليسارى، ابن الأسرة الإقطاعية الثرية، والمدافع الشرس «بلا أجر» عمن رآهم يستحقون الدفاع من «إسلاميين» متهمين فى قضايا الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى. (كذلك فعل فريد عبدالكريم الناصرى حين دافع عن الإخوان فى قضية ١٩٩٥) أولئك الذين لم تحد بهم انتماءاتهم الاجتماعية أو السياسية عن «الإنصاف» قيمة، والعدل مبتغى. وهما قيمتان أخشى أن أقول أنهما أصبحتا نادرتين فى عالم اليوم.
أتذكرون مرافعة الهلالى الشهيرة (١٩٩٣) التى حذر فيها من «جو مسموم، ومناخ محموم يعربد خارج قاعات المحاكم.. وحملات هيستيرية تطالب بقطع الرقاب وقطف رءوس الشباب.. متجاهلة أن القضاء جهاز لإرساء العدل، وليس أداة للقمع أو الردع». ذكرنى بها يوما أحمد سيف الإسلام متفضلا باتصال هاتفى ليعلق على سلسلة من المقالات كنت قد كتبتها هنا عن القضاء والعدالة.
***
وبعد..
فليس هذا مقال عن الراحل النبيل وعائلته، فهو وهُم ليسوا أكثر من عائلة مصرية «حقيقية»، احتفظت بنقائها بعيدا عن تشويه التبعية «تنظيمية كانت أو إعلامية». فظلت محبة لمصر، ولكل المصريين. وفية للمبدأ «الذى لا يتغير» بتغيير من فى القصر؛ اسما أو حزبا أو مؤسسة أو جماعة. فالظلم هو الظلم، مهما كان انتماء المسئول عنه. والعدل هو العدل؛ الذى هوأساس الملك، والذى هو قبل كل شىء «اسم من أسمائه سبحانه».
ليس هذا إذن مجرد مقال عن الرجل أو عائلته بل هو عن قاعدة بدهية نسيناها، وأحسبها المسئولة عن كثير جدا مما نتخبط فيه؛ عنصرية وعصبية وانحيازا منذ عشرات أو ربما مئات السنين. أن «المبادئ لا تتجزأ»، وأن: «كلٌ يؤخذُ منه ويُرد» كما علمنا الإمام مالك وأن «اعرفوا الرجال بالحق، ولا تعرفوا الحق بالرجال» كما سمعنا من على رضى الله عنه. بمعنى أن تكون ولاءاتنا للمبدأ والفكرة، لا للرجل أيا كان اسمه؛ حسنى مبارك أو محمد مرسى أو عبد الفتاح السيسى. فهكذا الموضوعية «الغائبة»، وهكذا يفعل المتحضرون فى عالم تقدم حولنا، فيما نحن نستدعى ثأراتنا القديمة، وعصبياتنا لهذا التنظيم أو ذاك، أو لهذا الرجل أو ذاك.
يبقى أن وداع أحمد سيف الإسلام وهو يخطو خطوته الأخيرة إلى حيث «لا ظلم»، ينبغى أن يذكرنا بأن الرجل كان يدافع عن «المظلومين» بغض النظر عن انتمائهم السياسى. باحثا عن وطن «لا يظلم» أى من أبنائه.
كما يبقى أننا قد نتفق أو نختلف حول الرجل وعائلته. ولكننا قطعا نتفق على أنه «الآن» هناك… أخيرا، حيث «العدل» الذى ربما بحث عنه كثيرًا ولم يجده. وحيث «الناس سواسية كأسنان المشط».
فى قصة الراحل النبيل وعائلته عنوانان رئيسان على دفتر «الوطن»: النضال ضد الاستبداد، أيا كان الرداء الذى يتخفى فيه، والإنصاف دفاعا عن المظلوم أيا كان انتماؤه. وأظنهما عنوانين، على وضوحهما ما زالا بحاجة إلى «بوصلة» وإلى بحث كثير.