وقفت فى جنينة بيتنا أبكى بدموعى الساخنة وأكتم بكائى حتى لا تسمعنى أمى. كنت أمسك بصفحات من جريدة «الأهرام» تحمل كل صفحة مقال الدكتور يوسف إدريس الأسبوعى، كنتُ أقصُّها وأجمعها وأضعها فى ظرف أصفر كبير من أظرف أبى، أخرجت الصفحات وكوّرتها فى قبضة يدىَّ دامعًا وأخذت أمزقها نُتَفًا ومزقًا وقِطعًا وأقذفها فى هواء الجنينة، لاعنًا يوسف إدريس، فقد اكتشفتُ أنه عميل.
كنت ساعتها طالبًا فى تانية ثانوى عام ١٩٨٢، وأهم كاتب فى عمرى هو يوسف إدريس الأديب العظيم والكاتب الفذّ، وكان قد نشر كتابًا عن الرئيس السادات بعد عام من اغتياله بعنوان «البحث عن السادات» كان فظيعًا وشنيعًا فى الهجوم على السادات واتهمه بكل مصائب الدنيا فهاج ضده البلد وأخذت الصحف تهاجمه، وكان عنوانًا شهيرًا لجورنال «الأخبار» يومها «كاتب يغتال نفسه»، وذكرت الصحيفة أنه تقاضى خمسة آلاف دولار من القذافى ثمنًا لمقالاته ضد السادات، وأضافت بعضًا من مثل هذه التهم.
أما المجلس الأعلى للصحافة فقد شن هجومًا على الرجل فى بيان رسمى بعد اجتماع مطول. الأكثر من هذا كله أن الرئيس مبارك وقف فى خطبة رسمية له يصف إدريس بجملة لن أنساها ما حييت، إذ قال عنه: «ذلك الكاتب الذى كنا نحترمه». وهكذا ثبت لى بكل السبل أن إدريس كاتبى وقدوتى ونجمى ومَثَلى الأعلى عميل مأجور فشعرت -وأنا الصبى لم أكمل السابعة عشرة من عمرى- بصدمة مدوية، وانهارت حالتى النفسية جدًّا وعشت عذاب اكتشاف الخيانة، وأخذت أمزّق صفحات مقالات يوسف إدريس وأرمى كتبه التى كنت أشتريها من معرض الكتاب منذ كنت فى أولى إعدادى (لم يطاوعنى قلبى أن أمزقها).
بعدها بعدة أشهر كان مبارك وحافظ الأسد يتمشيان بحرسيهما ورجالهما فى الساحل الشمالى، فإذا بيوسف إدريس فى شُرفة فيلته يناديهما فيجلسان معه، ويشربون الشاى ويلتقطون لهم الصور وينشرونها فى الصفحات الأولى. كان إدريس قد استرد مكانته مع الدولة وعاد إلى الكتابة وتسامح الجميع عما نشره من افتراء على السادات وتسامح هو مع ما نشروه من أكاذيب، واكتفى من الانتقام بكتابة مسرحية «البهلوان» وكانت قهقهة يوسف إدريس فى معرض الكتاب مع مبارك مجلجلة دائما.
قابلت الدكتور يوسف إدريس بعدها كثيرًا كصحفى شاب، وفى كل مرة كنت أريد أن أعتذر إليه عما فعلت مع مقالاته حين كنت صبيًّا أصدّق البلاهات، ولكننى لم أتشجع لأحكى وأعتذر. وها أنا أفعلها متأخرًا جدًّا!