إبراهيم عيسى يكتب | خلق السر
كان سر الخلق
خلق السر
النهار الأصفر الذى اختلط غبار هوائه بتراب سمائه بثقل أنفاسه ولزاجة رياحه.
كسا المكان كلّه.
غطَّى الأعمدة ولفَّ الجدران والتصق بالزجاج وتعطَّن فى الزوايا وافترش الأركان ونام على المكاتب وعشَّش فى الفراغ، وباض البياض باهتًا مكسورًا من نور كهربائى مخنَّث مولود سفاحًا فى حلكة الظلام الجاثم.
■ ■ ■
كان سر الخلق
خلق السر
المكان بلا هوية.
والهوية بلا عناوين.
والعناوين تحت الصور.
والصور بين أفخاذ الأكاذيب.
■ ■ ■
كان سر الخلق
خلق السر
دخلوا علىّ صالة التحرير فى المجلة.
كانوا كثيرًا.. كانوا جميعًا.. كانوا كلهم.. وكنت وحدى أشعر وجع الظهر يصعد حتى أعلى فقرة فى العمود الفقرى، يبرك على عظامى ويحنى رأسى ويلوّث عنقى بالانحناء، والقلم فى يدى والأوراق منشورة والهاتف صامت والزجاج يأخذ من ظلالى وجوده، والقلم أزرق غليظ، وكفِّى اليسرى تعبث فى تجربة بكر لالتقاط الألم على فقرات الظهر.. وكنت أخاف من نومة على بطنى وأصابع تشرِّحنى وبحث عن إبريق لأفرغ بولى، نائمًا فوق سرير، لا أقوى على القيام، أمتطى الكابوس اليقظ لألتقط نفسى من هذا الخوف المستمر.
حتى جاؤوا.
جاؤوا جميعًا.
رفعت رأسى لما شعرت حفيفهم، وفتحت عينى حين لامَست أطيافُهم رموشى. وهلعت، اقتلعت من قاموس الألفاظ المفهومة إلى هامش البحث عن معنى.
كانوا جميعًا.
فكيف كنت أقاومهم؟
■ ■ ■
ما جرى كان سريعًا، قامعًا، شرسًا.
قدومهم نحوى فى لمح سقوط الجثث والحب.
فى تهاوى المشاعر، فى انقلاب القلوب.
جريهم تجاهى فى غروب مستقيم للشمس.
جنوح خاطف لقصف عنق الأغانى.
لحن جنائزى -بالسواد المطلق- يلف الرقبة ويتغلغل فى الأوردة ويجذب القصبة الهوائية للانكسار المفاجئ.
صالة تحرير المجلة بلا أخوة، بلا رفقة، بلا أحد.
لا أحد موجود وإن وُجد.
لا يد ممدودة وإن شُوهدت.
العيون مغلقة عنك، وجدران القلوب مسدودة فى وجهك – ووجه أى وجه للحقيقة.
كنت أمام القادمين فسلاً مطالبين باجتثاثه أرنبًا يطلبون دمه البكر يغرق فراءه الأبيض الناعم، بينى وبينهم المكاتب، وممر ضيق، لكنهم تجاوزوه كأن لم يكن.. وصلوا إلىَّ.
جالسًا مطروحًا على مسند المقعد، منطرحًا على الذهول الهش.
مَن هؤلاء؟
وجوههم رغم حلاوتها غريبة، وغرابتهم رغم وضوحها غامضة، وغموضهم رغم وجوده مختفٍ، واختفاؤهم رغم مثوله مرتحل، وارتحالهم فىَّ.
فى عيونهم سموق.
وفى أذرعهم وشم مستطيل.
وتحت حواجبهم لمعان.
وفى أكُفِّهم جهامة.
وتحت إبطهم جريد نخل.
وعلى أكتافهم نصل مبرق.
وكانوا كثيرًا.. جميعًا.. كلهم.
كانوا فرادى جماعات صفوفًا كتلاً.
كانوا غموضًا وضوحًا طلوعًا دخولاً فىَّ.
امتد كل ما لديهم إلىَّ.
أصابعهم أحسستها تضرب بقسوة المعذبين من وجودى، أَكُفُّهم صفعت كل ملامسة بجسدى، أنهضونى من مقعدى، ولفّوا عنقى، وغرسوا أظافرهم فى عينى، وضربوا وجهى، وكسروا عظمى، وأناموا أحذيتهم فى فمى، وحطَّموا سِنَّتى الأمامية، ومزَّقوا ثيابى، ونزعوا صُرَّتى، وامتد حبلُها حتى نعالهم الثقيلة، وشرخوا فخذى، وبِسِنّ حذاء وقبضة يد طعنوا ما بينهما ولووا قدمى، وفكُّوا جلدى عن ساقى ثم أقامونى من فوق المكتب إلى الأرض، وأسندونى قائمًا.
خلعوا قفصى الصدرى، دغدغوه، وجعلوا أكبر قطعة فيه جمرة تُلقى على الشيطان فلا تبعده.. ولا تبقينى حيًّا.
وانكشف لهم قلبى، فبصقوا فيه ماءً مغليًّا ودخانًا كثيفًا، ثم رفع أحدهم حذاءه وضرب قلبى بعزم ما فيه، ثم خطفوا أصابعى من كفِّى وألقوها من النافذة.
ثم رموا بى من فوق المقعد.
وصعد حفيفهم يملأ الكون، وتكاتفهم ليهز المحيط الجوى، وعجبت أن رأيتهم يمرُّون من الزجاج ويعبرون الجدران ويشقُّون السقف.
ويختفون، ينمحون تمامًا.
وإذا بى أراهم وقد ظهرت لهم أجنحة وصفت وجوههم واستنارت شفاهم.
وتنادوا.
– إلى السماء السابعة.