إبراهيم عيسى يكتب | كنتُ عبد الحليم.. وكانت نادية
خرجت من الباب المعلق فوق الموج.. فتحته بصعوبة حتى وجدت نفسى فى ردهة الشقة كما هى.. ضيقة.. يسارها باب الحمام ويمينها غرفة مغلقة منذ جئت إلى هذا المكان -وخلال موتى لمئة عامة- أشك أن أحدًا فتحها.
مثل طفل يجرب المشى لأول مرة (دون أن تنتظره أمُّه فى نهاية الردهة) مشيت بطيئًا مترنحًا خائفًا..
عندما انتهيت من الردهة وجدت الصالة متسعة جدًّا وعلى غير ما تركتها، وجدت نفسى فجأة أمام نادية لطفى.
نعم كنت بطل فيلم «الخطايا» أمامها.
روحى خرجت من جسدى والتفت على مساحة من الضوء الصاعد من مصباح كهربى مكثف ضبطه الحاج وحيد فريد مدير تصوير الفيلم، والمخرج حسن الإمام يضبط بعينه اليسرى المشهد ويجلس واضعًا قدمه اليمنى على مسند المقعد.
وكنت أقف فى الصالة مرتديًا هذا القميص والبنطال (اختفى عبد الحليم حافظ فىّ وامتزجت فى روحه).
مرتبكًا، ممسكًا أصابعى اليمنى باليسرى.
عيونى فيها الحب والعشق والسحر والتوهان والإبحار فى صبابة متأججة، وتوقٍ جنونى لهذه الماثلة أمامى.. حلوة جدًّا جسدها ممشوق مفصل -ترتدى بنطالا أسود ودثارًا صوفيًّا واسعًا.. شعرها أصفر ملفوف فى ذيل حصان أشقر، وعيناها جميلتان فيهما كل ملخصات أساطير الغرام العذرى، وشفتاها مرسومتان فى دقة فم متسع لكنه خرافى، ورغم أنفها الكبير لم أكن أراه كبيرًا، كنت ذائبًا فى حواجبها وبشرتها وابتسامتها ذات الخفر والارتباك.
كنت أحبها.. وأعد من واحد إلى عشرة حتى لا أصرح بحبى لها، كما أوصانى أخى حسن يوسف فى الفيلم، وفى وقفتى ترددت، ارتبكت، تقدمت وتراجعت، أقبلت وأدبرت، وكان المصورون والفنيون والمخرج وزملائى من حولى يحثوننى على التقدم إليها بقلبى، بحبى، بعشقى، لكننى -أنا هكذا دائمًا- لا أنطق وهى تحثنى بإيمائها.
وأخيرًا، أقول لها: ممكن أوصلك.. فيضج المشهد بدخول والدينا، ويشرخان الوجود بحضورهما، لكننى فجأة أتوقف فاغرًا عشقى فقد رأيتها.. رأيت نادية لطفى ترتدى قميص نوم أحمر، وتدخن سيجارة (أعرف أنها ليست مارلبورو حمراء) وتلقى صدرها على ممثل ثقيل الظل، منتفخ الحجم، غبى الملامح، وتُقبله وتترك خدها له فأفرُّ غاضبًا إلى غرفة مجاورة تدخل علىّ نادية لطفى وهى تسألنى: كيف ستعيش هى لو لم تفعل ذلك؟
أقترب منها فأراها ذاتَ مساحيق كارثية وأنوثة مفضوحة وعُرى بائن وألوان مزدحمة، اختفى نقاء صورتها فى فيلمى الأبيض والأسود.
فوجدتنى.. والمخرج يصرخ والفنيون يلطمون ونادية لطفى مذهولة – أصفعها وألعنها وأمزق قميص نومها.
وهى الأخرى ترد ضربى بضرب، عنفى بعنف، فتلعن وتسب وتتهمنى بالجنون، وتستنجد بالمنتج والمخرج، فيتوجهون إلى عنقى وذراعى ويضيقون الخناق علىّ.. لكننى بقوة العائد من موت لمئة عام، أفرُّ منهم وهم يحدثون أنفسهم ذهولًا:
– ليس معقولا، عبد الحليم حافظ لا يفعل هذا أبدًا.