ابراهيم عيسى يكتب | فى وصف الحبيبة
هذا لمْح وصفِها..
هذا وصْف لمحِها..
هذا…
مبتدأ الوصول، وصْل سيرتها، قطر حقيقتها، نصّ ضحكتها، سرّ دمعتها، وَهَج نظرتها، لَحَظ طلّتها، بثّ همستها، سرْد خطوتها.
هذا…
خبر المثول، لشرود عينيها لحظةَ غزلى المفرط لإيماءة رأسها وأصابعها تسير على ذوائب شعرها، لرعشة أناملها، تتوه عيناها فى فضاء يطل من خارج نافذة مفتوحة على العالمين.
لارتداد رأسها لحظة توترها المفاجئ، لضحكتها منطلقة فى ممر ضيق طويل مقفل، تخرق الأرض وتهد الجدران وتلف قلبى فى غلالة من قماشة شفتيها، هذا…
عُسْرُ وصفها مِن يُسْرِ شخصها.
هذا…
مرور بجواز سفر المحبين العاشقين على مطار قلبها وميناء صدرها وأجنحة شفتيها وأرض عينيها.
هذا…
رحلة قلبى الورق من مدينة غريبة فى غير الوطن أسير فى شوارعها الخالية فى عصر يوم، أمسك قطعة حلوى اشتريتها من مقصف زجاجى، نصف قامتى غارق فى خوفى، وجمع حيلتى عاجز فى غربتى طفل يفرح بالحلوى وتشكّه لوعة البعد عن دكان عم أحمد فولة فى مدينتى نصف القروية، عن الشارع الذى أعرف فيه عصام وناصر وشريف وعاطف، وخناقات كرة القدم، وتدخل الأمهات فى معارك يومية وشجار جارتنا المسكينة -أصابتها علة القلب بعد سنين- تطلب منا الابتعاد بالكرة عن أقفاص الطماطم أمام باب بيتها المدفون تحت أسفلت الشارع، خروج خالى من نافذة غرفتها ينهرنا عن اللعب، يريد هدوءا محرَّمًا للمذاكرة.
أحمل لوعتى وخوفى ومسافة الوصول لشقتنا فى عمارة «الكومى» فوق بحيرة من مياه المطر الغريب (ذلك الذى تعرفه مدينتى فى وطنى بالعافية) يقف أمامى بجسده الطويل، ومرارة نظرة عينيه، وشراسة قسماته، صبى محفور فى جدار الكراهية، يقذفنى بنظراته فأخاف (ها أنا ذا أعترف لأختى الكبرى، تتهمنى بالجبن كلما عنّ لها سبب) ترتجف يدى، أطلب منه وقد سد طريقى وفتَّتَ أملى أن يتركنى أذهب إلى شقتنا وليأخذ كل الحلوى التى فى يدى، يعصرنى خوفى ويحنى قامتى القصيرة، يعالجنى بنظرة لزجة ويخطف منى الحلوى، ويمضى…
أفرح وأرحل، عندما أخطو فوق الرصيف المقابل ألتفت إليه، أجده غارقًا فى جوع بلا حدود يقضم الحلوى ويعدو خوفًا.
أأرضى زرعتها الحبيبة، أم نَبْتُ قلبى نما فى جدار عينيها؟ تلك التى تستفهم منى حقيقتها، وأسألها حقيقتى.
أتوضأ بلمس أناملها.. وأصلى فى عينيها..
وأحكى لها..
حزن طفل فى مركبة عامة مزدحمة، تدوسه الأقدام والأحذية وتلكزه بطون النساء المنتفخة، ويأمره الكمسرى بالدخول والابتعاد عن حافة مقعده، يلتفت الطفل مكسور النظرة والقامة، يسألنى: هل تذهب هذه المركبة إلى ميدان التحرير؟
تحرِّرنى وتُطلقنى وتبثُّ فى شجنى فرحها، وتغرس فى لحمى فرعها، وترفعنى من أرضى المحفورة، محلقة لسمائها، تأخذنى بيدها، بكفها المنسوج بطيبة الأنبياء وحنوّ أمى وبطُهْرٍ مريمىٍّ وبراءة عائشية، تصهرنى وتشكّلنى وترسمنى وتُدخلنى فى عروق دمها.. ودم عشقها.
أنام على أرض كَفِّها، تحْفل بى الملائكة، يتقدمون يزفونها لى عروسًا من حرير ولؤلؤ وثياب سندس وإستبرق، يرفعونها على أكفّهم، مشرقة مبهرة كأنها كوكب درىٌّ، الكوكب فى غلال زِيِّها، الزىّ مغزول بقطن الجنة، الجنة عند ربها..
يضعون أصابعهم فى صدرى، يحفرونه، ويُدخلون مُدية بيضاء نقية، يشقون قلبى نصفين «قلب حقيقى أم قلب ورق؟».
يغرسون الحبيبة فىَّ، يضعون جسدها الناصع، زيَّها المتألق، عيونَها المبحرة، شفتيها الوضاءتين، فى ما بين شريان وأورطى، فى الأوردة فى حجرات القلب الأربع، يغلقون عليها قلبى، يخيطونه وينهون جراحتهم العذبة ويحلّقون فوق رأسى.
وتخرج من قلبى أطيافها، تكون عظمًا وتكسو العظام لحمًا، تقف -لحظة سقوط حصن القيظ فى آخر النهار- تتكئ على أفريز نافذتها، تستند إلى سور شرفتها تحلّق فى الأبنية المرصوصة على ضفة شارعها، بنايات قديمة، تؤكد فوات الزمن وزمن الفوات، مدرسة بطوابقها ونوافذها، رسوم أطفالها البدائية، بوابتها الحديدية، حديقتها المنسية، ضجيج تلاميذها الصباحى، مُواءها المؤقت فى ليل نصف مظلم إلا من ضوء ينبعث من غرفة الخفير وعامل المدرسة، يحتسيان شايًا ثقيلاً يذكّرهما بليالى قراهم البعيدة، جِلسة الحقل، ثُلة الرجّالة، أعواد الغاب، أكواز الذرة، رائحة الدخان، نقيق الضفادع، كعب بندقية الخفير، صوت ماكينة الطحين الملحّ، ظلال أعواد القطن الناشفة فوق الأسطح، لحم النساء الخشن على أسرَّة مرتفعة مهتزّة.
تمعن الحبيبة فى عين المسجد المشيَّد، المئذنة العالية، نقوش الطلاء، آيات القرآن الكريم تعزفها حنجرة شيخ ضعيف البنية ندىّ الصوت، تمتص الحبيبة رحيق صوته، يدفّئ قلبها ويعصر دمعها «تحب الآيات الحزينة» تجمع ذوائب شعرها حول عنقها..
وتتأمل أسفلت الشارع الخالى، طفل يأتى فى صحبة كف أبيه، بجلبابه الأبيض، ترفعه أصابعه النيئة خشية أن يلوثه الرصيف، يخلع حذاءه الصغير، يعبر حاجز الباب المفتوح، فيتعثر، يسنده أبوه، يضغط على لحم ذراعه، يؤلمه، يدخل الطفل ممسكًا بحذائه، يتابع ركعة الإمام، سجود الرجال، بياض الملابس، عين الحبيبة تنظر فى نافذتها.
تدخل الأطياف متجمعة من ركن النافذة إلى قلبى عائدة، أتوضأ بلمس أناملها وأصلى فى عينيها.
هى…
الرحلة والطريق، الصدق والصديق، الوتد والبلد..
السكن والوطن، الوعود والموعود، البصر والمصير..
الصوت والصمت، الأغنية والمغنّى، الوصل والاتصال..
الجرح والملح، الهمزة والفصلة، الغيبة والأوبة.
الزَّفْرة والشَّهْقة، الحصن والغزوة، المقر والمفر..
السور والسلم، المُدية والطعنة، المعبد والمعبود..
أكنت الذى جلس على النيل ليلتها؟ فهبطت من سمائها لأرضى، ضبطت النبض، وفصلت القلب، ورتقت الجرح، ونظَّفت الصدر، شذَّبت زروع نفسى، وردمت حفرات حزنى، وقصّت علىَّ وأقدامها تلمس حافة النيل النائم تحت مقعدنا الحجرى، فوقه مظلة بُنيّة من خشب ردىء يمنع الشمس إن استطاع فى نهار القاهرة الجحيمى، تمسك بأصابعها ملفوفة مستقيمة مثيرة مؤنقة الأظافر، تمسك عمودًا حديديا مثبتًا فى أرض المقعد، تضع كفها على حضن فخذها، تنام فوق ثوبها الفضفاض المطرز.
أكنت الذى أجلس؟ أكانت التى جاءت فقصَّت حكايتها وخصَّتنى بفرْضها وسُنّتها ونَفْلها وقيامها وسيرتها وحقيقتها؟
أكنت…؟
أم هى التى خرجت من قلبى، تبوَّأتْ عرشى، وامتلكت قلعتى، واحتلت حصنى، وأنزلت أعلامى وراياتى واستبدلت شارة زِيِّى وعلامة رمزى، فقصَّت حكايتها وخصَّتنى بفرْضها وسُنّتها ونَفْلها وقيامها وسيرتها وحقيقتها، ثم عادت فسكنتنى وأسكنتنى، وأنامت رأسها فى قلبى بين الشريان والوريد؟
فعشت أفتش عنها، وصرت أحكى سيرتها، وأقص وصفها لعل أحدًا يعرفها، لعل أحدًا يبلغ عنى.. فهذا وصفها.. وصف من يمكن تسميتها بالحبيبة فأبلغوا عنى أو ابحثوا عنها أو فتّشوا قلبى، أقلب حقيقى أم قلب ورق؟
تدخل الأطياف متجمعة من ركن النافذة إلى قلبى عائدة.. أتوضأ بلمس أناملها وأصلى فى عينيها