ما إن تنشأ جماعة – أىّ جماعة – إلا وينشأ معها نظام لترتيب أمورها. وفى مصر القديمة ، وفى حضارة ما بين النهرين ، قام نظامان ، إحدهما الضمير وثانيهما القانون ؛ وما زال هذان النظامان حتى الآن قسيمان يتقاسمان الجماعات والدول فى شتى أرجاء المعمورة .
ففى مصر القديمة لم يكن النظام مكتوبا ، ولكنه كان معروفا ونافذا ، كالدستور البريطانى حالا ( حاليا ) . فقد كان هذا النظام – لدى الحكام والحكومين – يقوم على كلمة واحد هى ” ماعت ” سيدة ( أو ربة ) الحق والعدل والاستقامة والنظام . ولم تكن هذى ألفاظ تـُلاك أو كلمات مجردة من المعانى ، لكنها كانت فى فهوم المصريين وقلوبهم معانى متحققة ، وتتحقق دوما . وكان الملك أول من يلتزم بها . فقد وُجد على جدار داخلى بهرم ( أوناس ) فى سقارة ، وهو من ملوك الأسرة الخامسة ، نص يقوله الملك عند محاكمته بعد الموت ، فيؤكد أنه حَكَم الشعب ” بماعت ” أى الحق والعدل والاستقامة والنظام . وجاء فى كتاب الموتى ( وصحة إسمه اعلان فى النور ) أن المصرى بعد وفاته ، وفى المحكمة التى تنصب له بعد هذه الوفاة ، كان يقول ما يُسمّى بالاعتراف السلبى ، إذ يؤكد فيه أنه لم يفعل الشر، ولم يكذب ، ولم يأكل قلبه ( بالحقد ) ، ولم يتجاوز حدوده ، ولم يصمّ أذنه عن ماعت ، سيدة ( أو ربة ) الحق والعدل والاستقامة والنظام .
وكان معنى سيادة الضمير وسلطان الأخلاق أن يحكم الباطن الظاهر ، وأن يسيطر الداخل على الخارج . فمن صميم ذات الانسان ( المصرى القديم ) كانت تتدفق ماعت ، صراطا واضحا للحق والعدل والاستقامة والنظام ، ووحيا للاله يسكن فى القلب ويسيطر على اللسان ، فتعتدل به موازين الفرد والجماعة ، وتنتظم به كل شئون الحياة . فيتماسك الفرد فى ذاته ويتوافق مع الجماعة ، ويتناغم مع الانسانية والكونية .. بالواقع المُعاش ذاته ، وليس بنص خارجى يختلف فيه الرأى والتقدير ، ويتضارب بشأنه التأويل والتفسير .
فكان مما يقال فى هذا الصدد ( غذيت قلبى بماعت: الحق والعدل والاستقامة والنظام ) ، ( إن قلب الانسان الهه ، وقلبى كان راضيا عن أعمالى ) ، ( يُعْتَرف بفضل الرجل الذى يتخذ ماعت – أى الحق والعدل والاستقامة والنظام – نبراسا ينهج نهجها ، فإن ماعت أبديه ، وهى تنزل مع من يقيمها إلى القبر … واسمه لا يمحى .. بل يذكر بسبب عدله .. وهكذا تكون استقامة كلمة الله ) ، ( إن روحى هى الإله .. هى الأبدية ).
فى بلاد ما بين النهرين ( العراق حالا ) ، قامت على فترات الحضارة الأكادية فى الجنوب ، والأشورية فى الشمال ، ( وجزء من سوريا ) ، ثم قامت فى الوسط حضارة بابل . وفى بابل ظهر القانون – بالمفهوم المعاصر – والذى يحكم أعمال الناس وينظم علاقاتهم من الخارج . وأشهر قانون وصل الينا – بهذا المعنى – هو قانون حمورابى سادس ملوك سلالة بابل الأولى ( 1792 – 1750 ق.م ) . وقد دُونت مجموعته فى ثلاثة آلاف سطر باللغة البابلية ( وهى لغة سامية ) وبالخط المسمارى الأكادى على مسلة كبيرة من حجر الديورايث الأسود ، نُصب فى فناء معبد الرّب مردوخ ، الاله الرسمى للمملكة . ويظهر حمورابى فى هذه المسلة وهو يجلس على عرشه ويتسلم بخشوع من الاله شمّاس ( إله الشمس ) عصا الراعى ليكون راعى الناس . وقد صُدّر القانون بعبارة مهمة على لسان حمورابى يقول فيها ” إن الآلهة نادتنى لأمنع الأقوياء من أن يظلموا الضعفاء ، وأن أنشر النور فى الأرض ، وأرعى مصالح الخلق ” . وهذه العبارة مع الرسم الموجود على المسلة يشيران إلى مصدر إلهى للقانون ، فكأنما أوحى به – نصا ومعنى – عن الإله شماس .
ومن نصوص القانون يظهر أنه كان يقوم أساسا على نظام القصاص Lex Talionis ، ومؤداه أن العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص . ففى المادة 196 ( إذا سيد فقأ عين ابن أحد الأشراف فعليهم أن يفقأوا عينه وإذا كسر عظم سيد آخر فعليهم أن يكسروا عظمه ) وفى المادة 200 ( إذا سيد قلع سن سيد من طبقته فعليهم أن يقلعوا سنه ) .
وينصّ القانون على قطع يد من يضرب أحد والديه ( مادة 195 ) ، وينص على الموت عقوبة على الزانى والمغتصب للأعراض . وينص على الإعدام فى جميع قضايا السرقة والنهب ( المواد 6 ، 8 ، 9 ، 10 ، 11 ، 14 ، 24 ، 22 ، 25 ) . وينص على وضع علامة على جبين من يتهم إمرأة بالفحشاء و لايـُثـْبت عليها ذلك ( مادة 127 ) .
وواضح من القانون أنه يميز بين الطبقات ، ويفرق بين السادة والعامة . هذا فضلا عن أن مفهوم القانون – أيا ما كان – أن يحكم الظاهر الباطن ، وأن يسيطر الخارج على الداخل . وفى وضع كهذا ربما لا يأسف المجرم لأنه اقترف جريمة ، لكنه يسعد إن إستطاع الفرار منها فلا تقبض عليه سلطة ولا يحاكمه قاض ، لأنه- فى تقديره – إذ ذاك – قد فاز بالإفلات من القانون ، إن بمهارة وخبث ، وإن بعلاقات ورشوة .
لم تكن بلاد الإغريق موحّدة ، بل كانت مُدناً متفرقة اشهرها أثينا وإسبرطة . وقد تأثر الإغريق بمصر تأثرا شديدا ، حتى كان مؤرخوهم – أمثال هيرودوت و بلوتارك – يرون أن العقيدة الأورفية ( نسبة إلى أورفيوس الشاعر ) القائلة بأن الخلق يُحاسَبون بعد موتهم على ما قدموا من خير وشر فى حياتهم الدنيا ، وأن الاحتفالات التى كانت تقام لفكرة البعث ، مأخوذه كلها عن شعائر أوزير وايزيس المصرية .
من هذا الإتجاه ، أخذ الاغريق عن مصر فكرة ماعت ( سيدة الحق والعدل والاستقامة والنظام ) . ففى لغتهم لفظ تميس Themis ، أقرب ما يكون إلى فكرة ماعت ، إذ إنه يطلق على الأرباب التى يتمثل فيها نظام العالم الأخلاقى ، كما يعنى العادات التى إرتضتها الأرباب وأوصت بها . وعلى ما أنف ، كان لفظ تميس يطلق على العادات وعلى الآلهة التى يتمثل فيها نظام العالم الأخلاقى ، وبذلك كان القانون ( بمعنى مجموعة القواعد والعادات المقدسة ) جزءا من الدين .
وحدث أن وقع اضطراب اجتماعى شديد فى منطقة أثينا ، أمّل الناس أن يعالج القانون الشرور التى حاقت بهم جرّاءه . وحوالى سنة 620 ق.م كلّف الحاكم ( دراكون ) مشرعا بأن يسنّ القوانين الكفيلة بإعادة النظام إلى أثينا وأن يسجلها كتابة ، لأول مرة فى تاريخ اليونان . بهذا بدأ القانون يأخذ صفة الصدور عن الحاكم ، لا تقنين العادات والأعراف .
وحوالى هذه الفترة كان ليقورغ يحكم إسبرطة ( حوالى 900 – 600 ق.م ) فوضع لها قوانين . ويقول هيرودوت أن ليقورغ تلقى من الوحى فى معبد دلفى جزءا من المراسيم ، يصفها البعض بأنها قوانين ليقورغ نفسه ، ويصفها البعض الآخر بأنها تصديق إلهى على القوانين التى اقترحها هو .
فبلاد اليونان – فى ذلك العهد – لم تعرف القانون بالفهم والشكل والأسلوب الذى عرفته به بلاد ما بين النهرين ، وإنما أدركته بالفهم المصرى القديم ، من أنه قواعد وعادات مقدسة أوصى بها الإله ومثلتها لهم ماعت ، كما فهمت بلاد اليونان القانون بعد فترة بفهم آخر ، هو أنه قواعد وعادات مقدسة أوصت بها الأرباب ، أو أقرتها بعد أن نشأت ووضعت ( كما حدث بالنسبة لقوانين ليقورغ – على ما تقول إحدى الروايتين ) . فتأكد اعتبار آخر للقانون ، على تقدير أنه أداة سريعة للاصلاح يمكن أن يصدرها الحاكم ، أو مشرعين له فورا ، فتذهب الفوضى وتنتهى الاضطرابات ، كما حدث فى أثينا على عهد دراكون .