جاء في مدونة “جستنيان” (30م) – التي نقلها إلى اللغة العربية عبد العزيز فهمي (باشا): (لكي ما تـُحكم الدولة حكما صالحا في وقت السلم وفى وقت الحرب فإنه لا يجد بُدّا من الإعتماد على أمرين: الأسلحة والقوانين. بالأسلحة يستمر قهر كل عدو من الخارج يقصد الدولة بسوء، وبالقوانين يُقطع دابر المظالم التي يبّيتها بعض الأهالي لبعض. وبهذا يكون (جستنيان إمبراطور الإمبراطورية الشرقية) جديرا باللقبين معا، لقب “نصير العدل”، ولقب “المظفـّر المنصور”.
والعدالة، بالمعنى الذي يفهمه القانون، هو توازن بين الحقوق تـُحمل النفس عليه وتقوم به دوماً. فهي توازن بين الحقوق وليست توازنا بين النفوس. وهى أمر تـُحمل النفس عليه، بالترهيب والترغيب، وليست منهاجا تسير عليه النفوس. وهى تقتضي استمرار التزامها، لأنها لا تصْدر عن تلقائية طبيعية ولا عفوية بصيرة. وهذا المفهوم للعدالة – التي تركن إلى النصوص لا إلى النفوس – هو المفهوم الذي تقوم عليه عدالة القوانين طوال التاريخ، وحتى وقتنا الحاضر. هذه العدالة قاصرة غير شاملة، جزئية غير عامة، محددة غير منتشرة. فهي تتعلق بالحقوق القانونية الظاهرة، وتتناول ما يجوز للقانون أن يتناوله، فلا تشمل ما وراء الظاهر وما خلف النص، ولا يمكن أن تنظم الدوافع أو تسيطر على البواعث أو تصوغ النوايا. وهى بذلك لا تعمل، ولا يمكن أن تعمل، على إنماء (أو تنمية) الذات من الداخل؛ وإنما تقف عند إكراه الشخص بالترهيب أو إغرائه بالترغيب. إنها عدالة تضع الحدود بين الناس، لكن لا تـُوجِد الحالة الروحية والوجدانية والعقلية التي تتلاحم فيها النفوس وتتوافق فيها المشاعر وتتكامل بها الضمائر. فهي بذلك عدالة سلبية، حدودها المنع من الخطأ وليست عدالة إيجابية قوامها الدفع إلى الصواب. لكل ذلك انفصل المبدأ الأخلاقي عن العدالة، فأصبحت العدالة قواعد تـُكرّر ونصوصا تـُقرر، وهي تستهدف تطويع المجتمع لسلامة الحكم أساسا، مما يُبعد القانون عن أي فكرة أخلاقية.
انتقل المبدأ الأخلاقي من ثم إلى أفكار الفلاسفة وآراء المفكرين وأحلام الشعوب. بل وجاء في “مدونة جستنيان” ما يعزّزه، فقد ورد فيها – مما يدخل في الجانب الأخلاقي:-
• كل امرئ وعمله.
• لا يحسب أحد أن له إتيان ما يخل بالواجب أو ينافى مقتضى العقل أو يزرى بفضيلة الحياء، وبالجملة إتيان أي فعل تأباه مكارم الأخلاق.
• لا شيء أجدر بكرامة العقل الإنساني من حفظ العهود.
• أولى الواجبات كف الأذى عن الناس.
• لا ضرر ولا ضرار.
• الناس سواء أمام القوانين.
• ليس للنساء ولاية الأعمال العامة.
• خطأ الأخ لا يلحق أخاه.
• كل عُرف قديم شرع مُطاع.
• أيها الحد المقدس! ما أحرانا بالتغني بفضلك! لولاك لكان كل عقل مثارا للنزاع والخصام.
• من لم يأخذ فقد أعْطـَى.
• أكثروا من اصطناع المعروف وأقلـّوا من الأحقاد.
• مهمتنا غرس أصول الخير والعدالة، والتمييز بين الحق والباطل، والمباح والمحظور.
وهكذا، تضمنت المدونة إلى جانب النصوص القانونية مبادئ أخلاقية، ثم انتهت إلى ما يفيد ضرورة التربية الصحية والتنمية البشرية حتى تغرس في النفوس أصول الخير والعدالة، والتمييز بين الحق والباطل، والمباح والمحظور. وهذا مما لا يكون إلا بحكم الضمائر وسيادة القلوب النقية والسليمة.
في معنى غلبة الضمير والقلب على القانون قال شيشرون (106 – 43 ق.م) إن الناس جميعا أخوة، وخليق بنا أن نـُعدّ العالم كله مدينة مشتركة، وأسمى المبادئ الخلقية هي الولاء لهذا الكل، ولأن يكون الحافز له هو الضمير. وكان رأى أغسطس القيصر الروماني (30 ق.م – 4م) هو رأى “هوراس” – شاعر اللاتينية الكبير – من أن القوانين عبث لا طائل وراءه إذا لم تتغير القلوب. وقال “ماركوس أورليوس” (الإمبراطور من 160 – 180 م) : علينا أن نحاول أن نستشف ما وراء جسم العالم من تماثل، وأن نتعاون معه طائعين مختارين. ومتى أدرك الإنسان هذه الفكرة أدرك أن العدل هو في كل ما يحدث، لأنه يحدث وفقا لمنهج الطبيعة. وكل شيء طبيعي جميل في نظر من يفهم، وكل شيء يقرره العقل الكوني العام أي المنطق الكامن في جميع الأشياء. وعلى كل جزء أن يرحب في رضاء وابتهاج بنصيبه المتواضع وبمصيره. والاتزان هو أن يقبل الإنسان مختارا كل ما تحدده طبيعة المجموع كله. ثم يضيف : الناس كلهم إخوة، أخيارا كانوا أم أشرار، وكلهم أبناء الله ينتسبون إليه. وأنا (الإمبراطور) تكون روما وطني، وبوصفي إنسانا يكون وطني هو العالم كله.
وهكذا، وعلى الرغم من رقيّ الفنّ القانوني في الإمبراطورية الرومانية، فإن البعض، منهم أباطرة، أدركوا أن لا قيمة للقانون ما لم يقم على قلوب سليمة وضمائر مستقيمة.
عندما وصل نابليون بونابرت إلى السلطة في فرنسا طلب من مشرّعيه وضع ما أصبح يسمى بقانون نابليون (Code Napoleon)، فلجأوا إلى القانون الروماني ونهلوا منه ما يعْنيهم من قواعده، ثم أضافوا إليها كل ما أُدخل عليها من تعديلات بعد ذلك، وقنـّنوها فيما بات يُعرف بقانون نابليون.
وعندما أرادت مصر تحديث القضاء الوطني، وامتنع رجال الفقه الإسلامي، عن تقنين الفقه (والذي اختلط بلفظ الشريعة) حتى يبقى حكرا عليهم ولا يعرفه المدنيون من المواطنين، لجأ المشرع المصري عام 1883م إلى ترجمة مجموعة نابليون، واعتبرها قانونا نافذا في مصر. ولما ألغيت الامتيازات الأجنبية بمقتضى “معاهدة مونترو” عام 1937م، عادت سلطة قانون العقوبات (الجزاءات) إلى الشعب المصري، فصار يُطبـَّق على جميع المقيمين على أرض مصر، من مواطنين أو أجانب. ثم أُلغيت المحاكم المختلطة تماما في 15 أكتوبر 1949م، وأصبح القانون المدني المصري يطبق على الجميع.
وفى القانون المدني الجديد، والنافذ حالا (حاليا) تنص المادة الأولى على أنه (إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضى القانون الطبيعي وقواعد العدالة). ومن هذا النص يظهر أمران بجلاء ووضوح (1) أن المشرع عبّر عن مبادئ الضمير بما سمّاه القانون الطبيعي وقواعد العدالة، تماما كما جرى القانون الروماني على استعمال تعبير القانون الطبيعي بنفس المعنى، وباعتباره يجانب القانون الموضوع. (2) أن مبادئ الشريعة الإسلامية جاءت كمصدر ثالث في التعامل.
وقد ورد في الأعمال التحضيرية للقانون المدني تعليقا على تعبير “مبادئ الشريعة الإسلامية” أنه: القواعد المشتركة بين قواعد الفقه الإسلامي. وجاء في كتاب الدكتور السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني (… كل من الفقيه والقاضي أصبح الآن مطالباً أن يستكمل أحكام القانون المدني، فيما لم يرد فيه نص ولم يقطع فيه عرف، بالرجوع إلى الفقه الإسلامي) صفحة 46.
وعندما وُضـع دستور 1971م، الذي أُلغي بعد ثورة 25 يناير 2011، نصّت المادة الثانية منه على أن (مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع) ثم عُدّل النص عام 1981م – لظروف سياسية – لتصبح المادة (مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع). وإذ كانَ الدستور المذكور بلا مذكرة إيضاحية تبين المقصود من تعبير “مبادئ الشريعة الإسلامية”، فقد تعيّن الرجوع إلى القانون المدني الذي أخذ الدستور هذا التعبير منه. وفي هذا القانون يظهر بسفور من مجموعة الأعمال التحضيرية ومن كتاب الدكتور السنهوري (مقرر الحكومة في وضع هذا القانون) أن المعنيّ بالتعبير هو “الفقه”، وبتحديد أدق (المبادئ المشتركة بين مذاهب الفقه المختلفة).
نص كهذا لا يحوّل دولة مدنية إلى دولة كهنوتية، ذلك لأنه جاء أصلا في بيان مصادر القانون، ولأن تعبير (مبادئ الشريعة الإسلامية) ورد في القانون المدني كمصدر ثالث للأحكام، فكيف يصبح نصا هذا شأنُه وتاريخُه ووضعُه، أساسا لتغيير نظام الدولة لتتحول إلى دولة كهنوتية؟ وما هو الأساس الذي يتعلق به من يحوّل معنى النص – كمن يحول مجرى النهر – إلى مفهوم مغاير ومخالف تماما، فيجعل من “الفقه”، المتعددة آراؤه والمختلفة اتجاهاته، لفظاً يفيد “الشريعة” ويعني “الإسلام”؟
إن نظام الحكم في مصر، وفى كل البلاد العربية، عدا القليل منها، نظام مدني يقوم على المساواة بين المواطنين جميعاً، بغير تفرقة على أساس العقيدة أو الجنس أو اللغة أو اللون أو أي شيء آخر، فالكل مواطنون، وهم أمام القانون والدستور سواء، ولا يمكن أن يتغير كل ذلك بتحريف لفظ أو برفع شعار أو بادعاء ما لا ينبغي أن يكون، من قسمة المصريين إلى إسلاميين ومسلمين وأقباط.