يقولون: الحكم على الشيئ فرع عن تصوره، ولذلك عندما تسمع أحدا يحكم على ثورة يناير بالفشل أمامك اختياران: الأول أن تكبر دماغك وتقول «وهي كانت ثورة أبويا؟» وتواصل ما ينبغي عليك فعله من أجل أن تكون حياة الوطن أقل سوءا، والثاني أن تضيع وقتك وتسأله عن تصوره لفكرة الثورة أصلا لتعرف ما إذا كان حكمه على ثورة يناير بالفشل نابعا من رغبة تافهة في المكايدة والتنابز بالثورات، أم من سخط على عدم انصلاح الأحوال كما كان يرجو.
أكرر نصيحتي: عندما تكون في ثورة لا تنصح أحدا، ومع ذلك طالما أنت مصمم، نصيحتي دائما: الحياة قصيرة، ولذلك لا تساهم في تقصيرها أكثر بالدخول في مناقشات عبثية حول حقيقة الأشياء، لأن تغيير الواقع بجعله أقل سوءا أهم بكثير من الإنشغال بما سيكتبه التاريخ عن ذلك الواقع، صدقني ستندهش من قدرة التاريخ على تغيير رأيه، ومن قابليته لإنصاف البعض وظلم البعض ظلما مؤقتا دون أسباب مقنعة، ولكي لا أبدو عدميا ـ مع أن ذلك ليس عيبا ـ دعني أؤكد أنه على حد قراءاتي التاريخية المتواضعة، لم أجد واقعة تاريخية تمت إدانتها أو الحكم عليها بشكل سلبي دون أن يأتي من يقدم نظرة معاكسة لتلك الإدانة ويساعد على قراءتها بشكل مختلف، المشكلة أن بعض الوقائع التاريخية تكون محظوظة عندما تتبنى غالبية الناس القراءة المنصفة لها سريعا، والبعض ينتظر طويلا حتى يحدث له ذلك.
قبل أيام مرت ذكرى الثائر المصري الأكثر حضورا في الوجدان أحمد عرابي، والذي بات يعلم الكثيرون ولو حتى من المسلسلات وكتب المطالعة أنه تعرض للخيانة والهزيمة والظلم و»الكسر»، لكن أغلبهم ربما لا يعلمون أن أبرز من عادوا عرابي ولعنوه كان ثائرا آخر يحتل مكانه في الوجدان الشعبي إلى جوار عرابي بحكم التسلسل التاريخي، وهو زعيم الحزب الوطني «الأصلي» مصطفى كامل الذي لطالما شن حملات شرسة ضد عرابي اتهمه فيها بالخيانة لأنه تسبب في احتلال الإنجليز لمصر، لدرجة أن عرابي عندما عاد إلى مصر سنة 1901 وهو على مشارف السبعين قضى حتى وفاته عشر سنوات بالغة التعاسة زادها سوءا اضطهاد بعض شباب الحزب الوطني الذين كانوا يحرصون على الذهاب إليه في مقهى تعود أن يجلس فيه بميدان لاظوغلي فيبصقون على وجهه وينصرفون سعداء بإهانتهم للخائن عرابي.
للإستزادة اقرأ ما كتبه الكاتب الكبير رجاء النقاش في كتابه (رجال من بلادي) عن ظروف محاولة المؤرخ العظيم محمود الخفيف إنصاف عرابي في كتابه (عرابي المفترى عليه) والذي تم منعه من النشر على حلقات في مجلة الرسالة عام 1939 ارضاءا للقصر والإنجليز، ولم يتمكن محمود الخفيف من نشره كاملا إلا في عام 1947، ولولا أن السلطة التي حكمت مصر بعد يوليو 1952 وجدت أن من مصلحتها إحياء فكرة الدور الوطني لضباط الجيش في السياسة، لما كان أحمد عرابي ربما قد تعرض للإنصاف الذي يستحقه، ولما وجدت سيرته طريقها إلى كتب التاريخ وجدران المدارس ووجدان الملايين.
في ظني وليس كل الظن إثما أن بعض سوء الفهم الذي تعاني منه ثورة يناير لدى البعض الآن هو من بركات ثورة يوليو التي خلقت انطباعا رائجا مفاده أن الثورة الناجحة هي تلك التي تفرز حاكما «دكر» يضع أعداء الثورة في السجون ويعلقهم على المشانق ويصدر مجموعة قرارات ثورية تغير حياة الشعب إلى الأفضل دون أن يضطر الشعب إلى ترديد سؤال «هي الثورة عملت لنا إيه؟»، وهو المعنى الذي عبر عنه الفنان محمد عبد الوهاب في إحدى أغانيه الوطنية التي لم يكن بعضها بنفس قدر عظمته حين قال في مدح ثورة يوليو «وشفنا ثورة من غير دموع»، ربما لأنه كان مع حسين السيد كاتب الأغنية يريدان منح أفضلية ليوليو على سابقتها ثورة 19 التي كانت مليئة بالدموع والدماء والمنعطفات المرهقة، لدرجة أن أحد أبرز مؤرخيها الشيخ عبد الوهاب النجار عندما كتب كتابا عن يومياتها الدامية اختار له اسم «الأيام الحمراء».
من حقك طبعا أن تشارك عبد الوهاب في تصوره «الطيب» للثورة «خالية الدموع»، لكن طبيعة الثورات الشعبية الحقيقية ستختلف معك، لعلك مللت من الإستشهاد بالثورة الفرنسية التي ستكشف لك قراءة تاريخها أنها كانت مجموعة متتالية من الموجات الثورية التي كانت تقوم دائما لتصحيح مسار الثورة وتحقيق المطالب التي ثار من أجلها الفرنسيون أول مرة، ولذلك سأحدثك عن الثورة الأمريكية التي يروج انطباع عن كونها الأكمل والأنجح والأسرع تحقيقا للإنجازات، وهو ما يكشف خطأه على سبيل المثال كتاب (الأمريكيون الجوامح) للمؤرخ وودي هولتون ـ صدر بترجمة الدكتور أبو يعرب المرزوقي عن مشروع كلمة ـ والذي يحكي كيف تلاشت سريعا تلك الآمال التي غمرت الأمريكيين بعد انتصارهم الباهر على الإمبراطورية البريطانية ليترك تفاؤلهم مكانه لليأس، حتى أن وثيقة شهيرة أصدرها المزارعون الأمريكان في 1786 قالت بالنص «إن العامل الشريف الذي يمهد الأرض بعرق جبينه يبدو إلى حد الآن الوحيد المعذب من الثورة التي كان ينبغي أن تكون مجيدة والتي لم يحصد ثمراتها إلا من لا يستحق».
بالتأكيد يبدو لك تعبير «كان ينبغي أن تكون مجيدة» مألوفا لأنه سيذكرك بتعبير «وكأن ثورة لم تقم» الذي يردده الكثيرون أسفا على أحوالنا، ولو عقل هؤلاء ما يقولونه وفضلوا التفكير والتعقل على الطاقة السلبية واستسهال الإحباط، لأدركوا أن كل الشعوب التي سبقتنا إلى الثورات الحقيقية التي تسيل فيها الدموع وتنزف فيها الدماء أصابها التعب والملل بل واليأس أحيانا، ثم أثبت لها الواقع بتقلباته وتعقيداته أنه لا يمكن لتضحيات الشعوب أن تذهب هدرا، فقط إذا ظلت مصممة على امتلاك قرارها وتحرير إرادتها ومواجهة أخطائها، عندها سيكون من حقها أن تجني ثمار ثورتها أو ما تيسر منه تاركة ما يتبقى لكفاح الأجيال المتعاقبة، فالله لا يظلم الناس، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
واللي يحب الوطن يزُقّ.
اقرأ المزيد هنا: http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=25092013&id=0eda5632-0263-4ab7-91fe-9a9fdf38e644
يقولون: الحكم على الشيئ فرع عن تصوره، ولذلك عندما تسمع أحدا يحكم على ثورة يناير بالفشل أمامك اختياران: الأول أن تكبر دماغك وتقول «وهي كانت ثورة أبويا؟» وتواصل ما ينبغي عليك فعله من أجل أن تكون حياة الوطن أقل سوءا، والثاني أن تضيع وقتك وتسأله عن تصوره لفكرة الثورة أصلا لتعرف ما إذا كان حكمه على ثورة يناير بالفشل نابعا من رغبة تافهة في المكايدة والتنابز بالثورات، أم من سخط على عدم انصلاح الأحوال كما كان يرجو.
أكرر نصيحتي: عندما تكون في ثورة لا تنصح أحدا، ومع ذلك طالما أنت مصمم، نصيحتي دائما: الحياة قصيرة، ولذلك لا تساهم في تقصيرها أكثر بالدخول في مناقشات عبثية حول حقيقة الأشياء، لأن تغيير الواقع بجعله أقل سوءا أهم بكثير من الإنشغال بما سيكتبه التاريخ عن ذلك الواقع، صدقني ستندهش من قدرة التاريخ على تغيير رأيه، ومن قابليته لإنصاف البعض وظلم البعض ظلما مؤقتا دون أسباب مقنعة، ولكي لا أبدو عدميا ـ مع أن ذلك ليس عيبا ـ دعني أؤكد أنه على حد قراءاتي التاريخية المتواضعة، لم أجد واقعة تاريخية تمت إدانتها أو الحكم عليها بشكل سلبي دون أن يأتي من يقدم نظرة معاكسة لتلك الإدانة ويساعد على قراءتها بشكل مختلف، المشكلة أن بعض الوقائع التاريخية تكون محظوظة عندما تتبنى غالبية الناس القراءة المنصفة لها سريعا، والبعض ينتظر طويلا حتى يحدث له ذلك.
قبل أيام مرت ذكرى الثائر المصري الأكثر حضورا في الوجدان أحمد عرابي، والذي بات يعلم الكثيرون ولو حتى من المسلسلات وكتب المطالعة أنه تعرض للخيانة والهزيمة والظلم و»الكسر»، لكن أغلبهم ربما لا يعلمون أن أبرز من عادوا عرابي ولعنوه كان ثائرا آخر يحتل مكانه في الوجدان الشعبي إلى جوار عرابي بحكم التسلسل التاريخي، وهو زعيم الحزب الوطني «الأصلي» مصطفى كامل الذي لطالما شن حملات شرسة ضد عرابي اتهمه فيها بالخيانة لأنه تسبب في احتلال الإنجليز لمصر، لدرجة أن عرابي عندما عاد إلى مصر سنة 1901 وهو على مشارف السبعين قضى حتى وفاته عشر سنوات بالغة التعاسة زادها سوءا اضطهاد بعض شباب الحزب الوطني الذين كانوا يحرصون على الذهاب إليه في مقهى تعود أن يجلس فيه بميدان لاظوغلي فيبصقون على وجهه وينصرفون سعداء بإهانتهم للخائن عرابي.
للإستزادة اقرأ ما كتبه الكاتب الكبير رجاء النقاش في كتابه (رجال من بلادي) عن ظروف محاولة المؤرخ العظيم محمود الخفيف إنصاف عرابي في كتابه (عرابي المفترى عليه) والذي تم منعه من النشر على حلقات في مجلة الرسالة عام 1939 ارضاءا للقصر والإنجليز، ولم يتمكن محمود الخفيف من نشره كاملا إلا في عام 1947، ولولا أن السلطة التي حكمت مصر بعد يوليو 1952 وجدت أن من مصلحتها إحياء فكرة الدور الوطني لضباط الجيش في السياسة، لما كان أحمد عرابي ربما قد تعرض للإنصاف الذي يستحقه، ولما وجدت سيرته طريقها إلى كتب التاريخ وجدران المدارس ووجدان الملايين.
في ظني وليس كل الظن إثما أن بعض سوء الفهم الذي تعاني منه ثورة يناير لدى البعض الآن هو من بركات ثورة يوليو التي خلقت انطباعا رائجا مفاده أن الثورة الناجحة هي تلك التي تفرز حاكما «دكر» يضع أعداء الثورة في السجون ويعلقهم على المشانق ويصدر مجموعة قرارات ثورية تغير حياة الشعب إلى الأفضل دون أن يضطر الشعب إلى ترديد سؤال «هي الثورة عملت لنا إيه؟»، وهو المعنى الذي عبر عنه الفنان محمد عبد الوهاب في إحدى أغانيه الوطنية التي لم يكن بعضها بنفس قدر عظمته حين قال في مدح ثورة يوليو «وشفنا ثورة من غير دموع»، ربما لأنه كان مع حسين السيد كاتب الأغنية يريدان منح أفضلية ليوليو على سابقتها ثورة 19 التي كانت مليئة بالدموع والدماء والمنعطفات المرهقة، لدرجة أن أحد أبرز مؤرخيها الشيخ عبد الوهاب النجار عندما كتب كتابا عن يومياتها الدامية اختار له اسم «الأيام الحمراء».
من حقك طبعا أن تشارك عبد الوهاب في تصوره «الطيب» للثورة «خالية الدموع»، لكن طبيعة الثورات الشعبية الحقيقية ستختلف معك، لعلك مللت من الإستشهاد بالثورة الفرنسية التي ستكشف لك قراءة تاريخها أنها كانت مجموعة متتالية من الموجات الثورية التي كانت تقوم دائما لتصحيح مسار الثورة وتحقيق المطالب التي ثار من أجلها الفرنسيون أول مرة، ولذلك سأحدثك عن الثورة الأمريكية التي يروج انطباع عن كونها الأكمل والأنجح والأسرع تحقيقا للإنجازات، وهو ما يكشف خطأه على سبيل المثال كتاب (الأمريكيون الجوامح) للمؤرخ وودي هولتون ـ صدر بترجمة الدكتور أبو يعرب المرزوقي عن مشروع كلمة ـ والذي يحكي كيف تلاشت سريعا تلك الآمال التي غمرت الأمريكيين بعد انتصارهم الباهر على الإمبراطورية البريطانية ليترك تفاؤلهم مكانه لليأس، حتى أن وثيقة شهيرة أصدرها المزارعون الأمريكان في 1786 قالت بالنص «إن العامل الشريف الذي يمهد الأرض بعرق جبينه يبدو إلى حد الآن الوحيد المعذب من الثورة التي كان ينبغي أن تكون مجيدة والتي لم يحصد ثمراتها إلا من لا يستحق».
بالتأكيد يبدو لك تعبير «كان ينبغي أن تكون مجيدة» مألوفا لأنه سيذكرك بتعبير «وكأن ثورة لم تقم» الذي يردده الكثيرون أسفا على أحوالنا، ولو عقل هؤلاء ما يقولونه وفضلوا التفكير والتعقل على الطاقة السلبية واستسهال الإحباط، لأدركوا أن كل الشعوب التي سبقتنا إلى الثورات الحقيقية التي تسيل فيها الدموع وتنزف فيها الدماء أصابها التعب والملل بل واليأس أحيانا، ثم أثبت لها الواقع بتقلباته وتعقيداته أنه لا يمكن لتضحيات الشعوب أن تذهب هدرا، فقط إذا ظلت مصممة على امتلاك قرارها وتحرير إرادتها ومواجهة أخطائها، عندها سيكون من حقها أن تجني ثمار ثورتها أو ما تيسر منه تاركة ما يتبقى لكفاح الأجيال المتعاقبة، فالله لا يظلم الناس، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
واللي يحب الوطن يزُقّ.