لا تدع مشاعرك المتناقضة تفزعك، أرجوك لا تشعر بأنك «مش طبيعي» لمجرد أنك تجد نفسك هذه الأيام فجأة ساقطا ولا مؤاخذة فى قاع سحيق من الإكتئاب، ثم عندما تتكعبل فى خبر يقدم لك بصيصا من الأمل تفاجأ بنفسك تجرى وراء الأمل بكل ما أوتيت من قوة، للحظات تشعر أن الثورة خلاص ُسرقت إلى الأبد فتبتئس، وبعدها بساعات ترى حدثا يلهمك فتبتهج لأنك شعرت بواقعية حلمك فى جنى ثمار الثورة وأنت «حى لا تُرزق»، صدقنى كل ما تشعر به منطقى للغاية حتى لو كان منافيا لأبسط قواعد المنطق، فنحن نعيش الفترة التى يمكن أن نطلق عليها بشكل غير علمى «قفا ثورة»، إسأل عن هذا التعبير كل من يعمل فى المحلات التجارية أو المطاعم، وسيقول لك أن أسوأ فترات الحياة على الإطلاق هى فترات «قفا العيد» التى «يُقف» فيها الحال ويعربد الزهق فى جنبات النفس ويضاجع اليأس روحك بشغف شديد، نحن يا سيدى نعيش ما يوصف سياسيا بالمرحلة الإنتقالية، صحيح أنها منذ سنتين تنقلنا من بلاعة إلى أخرى، لكن دعنا نحمد الله أن الجميع مجمعون على كونها مرحلة إنتقالية لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، لذلك دعنا نتشبث بهذا الأمل وإن كان مشكوكا فيه، وننظر إلى النصف الملآن من الكوب، حتى لو كان مليئا بمياه ملوثة تجيب المرض، لأنه لازالت لدينا فرصة لدلقها وملء الكوب بمياه نظيفة، المهم ألا يوصلنا الإحباط إلى كسر الكوب وإستخدام نصفه المكسور فى الإنتحار.
طب وحياة أمى، كلامى ليس هجايص تهدف إلى تصبيرك، بل هو حقيقة علمية يمكن أن تقرأها بالتفصيل فى كتاب (روح الثورات) لعالم الإجتماع الفرنسى جوستاف لوبون والذى درس فيه بشكل رائع نتائج الثورة الفرنسية، وهو كتاب ترجمه الأستاذ عادل زعيتر وأعادت إصداره دار الكتب والوثائق القومية، وفى أحد فصوله الذى يحمل عنوان (تقلبات الخلق أيام الثورات) ستجد كلاما شديد الأهمية يكتبه جوستاف لوبون عن التحول الذى يحدث فى شخصية البشر أيام الثورات، والذى «يعود سببه إلى أن لكل إنسان نفسية ثابتة، لكن له أيضا شئونا خلقية متقلبة تظهر مع تغير الحوادث وهذه الأخلاق تتكون من إجتماع شخصيات وراثية كثيرة تبقى متوازنة مادامت البيئة المحيطة به لا تتقلب، لكنها متى تقلبت كثيرا وحصل فيها تغير حاد، يختل توازن الإنسان ويتألف من تكتل عناصره الموروثة شخصية جديدة ذات أفكار وعواطف ومناهج تختلف جدا عن شخصيته العادية».
لو لم تفهم كلمة مما سبق، لا تهتم، عندى لك طريقة أخرى أكثر بساطة لطمأنة نفسك، شوف ياسيدى، عندما يتهمك أحدهم بأنك أصبحت كائنا «بيضوحباطيا» تعشق النكد وتكسير المقاديف والمرمغة فى أحضان الإحباط، قل له أنك لست «بيضوحباطيا» على الإطلاق، وكل ما فى الأمر أن الشدة التى يمر بها الوطن حولتك إلى كائن «مرحنقباضي» طبقا لتعبير أبونا صلاح جاهين الذى لا يمكن أن تجد خبيرا فى علم الحزنولوجى أفضل منه، أليس هو الذى جاب آخر الحزن عندما قال «حزين يا قمقم تحت بحر الضياع.. حزين أنا زيك وإيه مستطاع.. الحزن ما بقالهوش جلال ياجدع.. الحزن زى البرد زى الصداع»، طيب، صلاح جاهين هو ذاته الذى قام بتوصيف الحالة النفسية الملخفنة التى نعيشها هذه الأيام فى مقال قديم له نشره فى أوائل الستينات فى مجلة (صباح الخير) وتم إعادة نشره مؤخرا ضمن أعماله الكاملة التى أصدرتها مشكورة مأجورة الهيئة المصرية العامة للكتاب، وبالتحديد فى الكتاب السابع منها الذى يضم عددا من مقالاته الصحفية المثيرة للدهشة والتأمل.
يقول صلاح جاهين فى أجزاء من مقاله «أخوكم العبدالفقير شخصيته يسمونها فى علم النفس، أو بصراحة فى طب الأمراض العقلية «مانيكدبرسيف» وهى كلمة مركبة تقابلها فى اللغة العربية كلمة نحتّها بنفسى هى «مرحنقباضية» وواضح أنها مكونة من شقين: المرح والإنقباض.. فالشخصية المرحنقباضية تجدها فى بعض الأحيان شديدة المرح والإبتهاج تكاد تطير من الأرض طيرانا، وفى أحيان أخرى تجدها شديدة الإنقباض كأنها مضروبة ستين ألف صرمة قديمة، مع مرارة حقيقية فى الحلق وثقل فى الأطراف، تسير مطأطأة الرأس، تجر نفسها جرا، والحالتان تحدثان لها عادة بدون أى سبب.
… إن معظم رسامى الكاريكاتير فى العالم شخصياتهم من هذا النوع: مرحنقباضية… والسبب بحسب اجتهادى فى تفسير هذه الظاهرة الذى يجعل المرحنقباضية هى مرض المهنة بيننا كما أن السل هو مرض المهنة عند العمال فى بعض الصناعات، أن الإنسان متوازن بطبيعته، يحمل من قدرة الإنفعال المرح بقدر ما يحمل من قدرة الإنفعال الغاضب، فإذا تعمد أن يبالغ فى المرح وفى خلق جوه لتأليف نكتة أو رسم كاريكاتير لا بد وأنه ينقلب إلى الطرف الآخر بنفس درجة البعد عن نقطة الوسط ثم يظل هكذا يتأرجح مثل البندول. وكثيرا ما كان البعض يسألوننى كيف تستطيع أن تكون رساما كاريكاتوريا وبكل هذا التهريج، وفى نفس الوقت شاعرا وبكل هذا الحزن، ولم يخطر فى بالى أبدا أن أخبرهم بإسم حالتى فى طب الأمراض العقلية: المرحنقباضية. وليس معنى هذا أن المرحنقباضية قد تصيب رسامى الكاريكاتير فقط، وإنما أيضا تصيب غيرهم من الأفراد والجماعات بل والشعوب أيضا، خذ مثلا الشعوب التى تعتقد فى قرارة نفسها أنها كلما ضحكت كثيرا، بكت كثيرا، ولذلك تجدها إذا ضحكت تقول: ربنا يجعله خير.».
الخلاصة ياصديقى، عندما تشعر بأنك تتأرجح بين الإكتئاب والأمل، لا تدع ذلك يحبطك، فأنت على الأقل أصبحت مثل صلاح جاهين، صحيح، كل ما ينقصك هو الموهبة الفذة والعبقرية النادرة والجاذبية الطاغية والسحر الربانى والدماغ المتكلفة، لكن المهم أنك الآن شخص «مرحنقباضي» مثل صلاح جاهين، ولذلك إذا داهمك الحزن إنس أن جاهين مات تحت وطأة الحزن، واكتفِ بتذكره وهو يقول لك «حاسب من الأحزان وحاسب لها، حاسب على رقابيك من حبلها، راح تنتهى ولا بد راح تنتهى، مش إنتهت أحزان من قبلها. عجبي».
عشان تبقى فاهم يعنى.
(جزء من كتاب (فى أحضان الكتب) يصدر قريبا عن دار الشروق بإذن الله) بلال فضل
ا
لا تدع مشاعرك المتناقضة تفزعك، أرجوك لا تشعر بأنك «مش طبيعي» لمجرد أنك تجد نفسك هذه الأيام فجأة ساقطا ولا مؤاخذة فى قاع سحيق من الإكتئاب، ثم عندما تتكعبل فى خبر يقدم لك بصيصا من الأمل تفاجأ بنفسك تجرى وراء الأمل بكل ما أوتيت من قوة، للحظات تشعر أن الثورة خلاص ُسرقت إلى الأبد فتبتئس، وبعدها بساعات ترى حدثا يلهمك فتبتهج لأنك شعرت بواقعية حلمك فى جنى ثمار الثورة وأنت «حى لا تُرزق»، صدقنى كل ما تشعر به منطقى للغاية حتى لو كان منافيا لأبسط قواعد المنطق، فنحن نعيش الفترة التى يمكن أن نطلق عليها بشكل غير علمى «قفا ثورة»، إسأل عن هذا التعبير كل من يعمل فى المحلات التجارية أو المطاعم، وسيقول لك أن أسوأ فترات الحياة على الإطلاق هى فترات «قفا العيد» التى «يُقف» فيها الحال ويعربد الزهق فى جنبات النفس ويضاجع اليأس روحك بشغف شديد، نحن يا سيدى نعيش ما يوصف سياسيا بالمرحلة الإنتقالية، صحيح أنها منذ سنتين تنقلنا من بلاعة إلى أخرى، لكن دعنا نحمد الله أن الجميع مجمعون على كونها مرحلة إنتقالية لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، لذلك دعنا نتشبث بهذا الأمل وإن كان مشكوكا فيه، وننظر إلى النصف الملآن من الكوب، حتى لو كان مليئا بمياه ملوثة تجيب المرض، لأنه لازالت لدينا فرصة لدلقها وملء الكوب بمياه نظيفة، المهم ألا يوصلنا الإحباط إلى كسر الكوب وإستخدام نصفه المكسور فى الإنتحار.
طب وحياة أمى، كلامى ليس هجايص تهدف إلى تصبيرك، بل هو حقيقة علمية يمكن أن تقرأها بالتفصيل فى كتاب (روح الثورات) لعالم الإجتماع الفرنسى جوستاف لوبون والذى درس فيه بشكل رائع نتائج الثورة الفرنسية، وهو كتاب ترجمه الأستاذ عادل زعيتر وأعادت إصداره دار الكتب والوثائق القومية، وفى أحد فصوله الذى يحمل عنوان (تقلبات الخلق أيام الثورات) ستجد كلاما شديد الأهمية يكتبه جوستاف لوبون عن التحول الذى يحدث فى شخصية البشر أيام الثورات، والذى «يعود سببه إلى أن لكل إنسان نفسية ثابتة، لكن له أيضا شئونا خلقية متقلبة تظهر مع تغير الحوادث وهذه الأخلاق تتكون من إجتماع شخصيات وراثية كثيرة تبقى متوازنة مادامت البيئة المحيطة به لا تتقلب، لكنها متى تقلبت كثيرا وحصل فيها تغير حاد، يختل توازن الإنسان ويتألف من تكتل عناصره الموروثة شخصية جديدة ذات أفكار وعواطف ومناهج تختلف جدا عن شخصيته العادية».
لو لم تفهم كلمة مما سبق، لا تهتم، عندى لك طريقة أخرى أكثر بساطة لطمأنة نفسك، شوف ياسيدى، عندما يتهمك أحدهم بأنك أصبحت كائنا «بيضوحباطيا» تعشق النكد وتكسير المقاديف والمرمغة فى أحضان الإحباط، قل له أنك لست «بيضوحباطيا» على الإطلاق، وكل ما فى الأمر أن الشدة التى يمر بها الوطن حولتك إلى كائن «مرحنقباضي» طبقا لتعبير أبونا صلاح جاهين الذى لا يمكن أن تجد خبيرا فى علم الحزنولوجى أفضل منه، أليس هو الذى جاب آخر الحزن عندما قال «حزين يا قمقم تحت بحر الضياع.. حزين أنا زيك وإيه مستطاع.. الحزن ما بقالهوش جلال ياجدع.. الحزن زى البرد زى الصداع»، طيب، صلاح جاهين هو ذاته الذى قام بتوصيف الحالة النفسية الملخفنة التى نعيشها هذه الأيام فى مقال قديم له نشره فى أوائل الستينات فى مجلة (صباح الخير) وتم إعادة نشره مؤخرا ضمن أعماله الكاملة التى أصدرتها مشكورة مأجورة الهيئة المصرية العامة للكتاب، وبالتحديد فى الكتاب السابع منها الذى يضم عددا من مقالاته الصحفية المثيرة للدهشة والتأمل.
يقول صلاح جاهين فى أجزاء من مقاله «أخوكم العبدالفقير شخصيته يسمونها فى علم النفس، أو بصراحة فى طب الأمراض العقلية «مانيكدبرسيف» وهى كلمة مركبة تقابلها فى اللغة العربية كلمة نحتّها بنفسى هى «مرحنقباضية» وواضح أنها مكونة من شقين: المرح والإنقباض.. فالشخصية المرحنقباضية تجدها فى بعض الأحيان شديدة المرح والإبتهاج تكاد تطير من الأرض طيرانا، وفى أحيان أخرى تجدها شديدة الإنقباض كأنها مضروبة ستين ألف صرمة قديمة، مع مرارة حقيقية فى الحلق وثقل فى الأطراف، تسير مطأطأة الرأس، تجر نفسها جرا، والحالتان تحدثان لها عادة بدون أى سبب.
… إن معظم رسامى الكاريكاتير فى العالم شخصياتهم من هذا النوع: مرحنقباضية… والسبب بحسب اجتهادى فى تفسير هذه الظاهرة الذى يجعل المرحنقباضية هى مرض المهنة بيننا كما أن السل هو مرض المهنة عند العمال فى بعض الصناعات، أن الإنسان متوازن بطبيعته، يحمل من قدرة الإنفعال المرح بقدر ما يحمل من قدرة الإنفعال الغاضب، فإذا تعمد أن يبالغ فى المرح وفى خلق جوه لتأليف نكتة أو رسم كاريكاتير لا بد وأنه ينقلب إلى الطرف الآخر بنفس درجة البعد عن نقطة الوسط ثم يظل هكذا يتأرجح مثل البندول. وكثيرا ما كان البعض يسألوننى كيف تستطيع أن تكون رساما كاريكاتوريا وبكل هذا التهريج، وفى نفس الوقت شاعرا وبكل هذا الحزن، ولم يخطر فى بالى أبدا أن أخبرهم بإسم حالتى فى طب الأمراض العقلية: المرحنقباضية. وليس معنى هذا أن المرحنقباضية قد تصيب رسامى الكاريكاتير فقط، وإنما أيضا تصيب غيرهم من الأفراد والجماعات بل والشعوب أيضا، خذ مثلا الشعوب التى تعتقد فى قرارة نفسها أنها كلما ضحكت كثيرا، بكت كثيرا، ولذلك تجدها إذا ضحكت تقول: ربنا يجعله خير.».
الخلاصة ياصديقى، عندما تشعر بأنك تتأرجح بين الإكتئاب والأمل، لا تدع ذلك يحبطك، فأنت على الأقل أصبحت مثل صلاح جاهين، صحيح، كل ما ينقصك هو الموهبة الفذة والعبقرية النادرة والجاذبية الطاغية والسحر الربانى والدماغ المتكلفة، لكن المهم أنك الآن شخص «مرحنقباضي» مثل صلاح جاهين، ولذلك إذا داهمك الحزن إنس أن جاهين مات تحت وطأة الحزن، واكتفِ بتذكره وهو يقول لك «حاسب من الأحزان وحاسب لها، حاسب على رقابيك من حبلها، راح تنتهى ولا بد راح تنتهى، مش إنتهت أحزان من قبلها. عجبي».
عشان تبقى فاهم يعنى.
(جزء من كتاب (فى أحضان الكتب) يصدر قريبا عن دار الشروق بإذن الله) بلال فضل
اقرأ المزيد هنا: http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=26092013&id=88bd6b12-474c-4fc7-b152-c9a30882664a