مجموعة سعودي القانونية

بلال-فضل

حدث ذلك في خريف عام 1965. كانت «ملايين الشعب تدق الكعب» وهي تلتف حول زعيمها «المنقذ» جمال عبد الناصر الذي فوضته في توجيه ضربة قوية لجماعة الإخوان المسلمين التي كانت قد ارتكبت لتوها غباوة جديدة تضاف إلى سجل غباواتها السياسية المتكررة والمتشابهة، حيث كان بعض قادتها وأنصارها قد اعتقدوا أن توجيه عدد من ضربات العنف إلى «المجتمع الجاهلي» الذي سكت على قمعها والتنكيل بها في عام 1954 يمكن أن يكون معلما على طريق تطبيق شرع الله حسب تعبير سيد قطب منظرها الفكري فيما بات يُعرف في أوساطها بزمن المحنة، وكالعادة استغلت السلطات الأمنية تلك الحماقة الإخوانية لتُحكم قبضتها على البلاد أكثر وأكثر، ولتبطش بكل من يفكر في أن يقول كلمة اعتراض تشق صف الشعب الفرحان تحت الراية المنصورة.

بعدها بأيام، وفي الخامس والعشرين من شهر أكتوبر لعام 1965 جلس كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة ثورة يوليو والذي بدأ زملاؤه مؤخرا يتهمونه بأنه دخل في دور دروشة دينية جعله يتعاطف مع جماعة الإخوان المسلمين ليكتب إلى صديقه ورفيق سلاحه عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة والرجل الثاني في البلاد رسالة طويلة مريرة جاء في نص سطورها ما يلي: «اليوم أصبحت يا عبد الحكيم أعتقد أنه لا حياة لي في بلدي الذي أصبحت أرى فيه جزاء كلمة (اتق الله) هو ما أنا فيه وما أهلي فيه.

عندما قلت لكم اتقوا الله قصدت أن تتقوا الله في هذا الشعب الذي قمنا لخلاصه واسترداد حريته. قلت لكم اتقوا الله بعد أن ألجمتم جميع الأفواه إلا أفواه المنافقين والمتزلفين والطبالين والزمارين. قلت لكم اتقوا الله في الحرية التي قضيتم على كل ما كان باقيا من آثارها…. قلت لكم اتقوا الله لأنكم أردتم استنعاج هذا الشعب، وأنا لم أكن ارضى ذلك، ولذلك أصبحت الآن لا أطيق الحياة في هذا الجو الخانق..أنا آسف أن تتحول ثورة الحرية إلى ثورة إرهاب لا يعلم فيها كل إنسان مصيره، لو قال كلمة حرة يرضي بها ضميره ووطنه… يا عبد الحكيم ألم أقل لك في مارس الماضي ما هي ضمانات الحرية، فقلت «نحن ضمانات الحرية»، وقلت لك أنني لا أثق في ذلك، وهذه الأيام تأتيني بالبرهان بأن للحرية ضمانات وأنتم الضمانات، كل شيئ جائز.

ألم أقل لك يومئذ أنه إذا لم يتنازل عن تألهه وفرديته فلا فائدة للعمل معه، فهل يا ترى الذي جرى لمواجهة كلمة اتق الله هو دليل لهذا التنازل. كلمة صريحة أقولها لك يا عبد الحكيم أنا أرثي لهذه الحال، ومع ذلك أتمنى أن يهديكم الله.. لا تغضب أنت الآخر يا عبد الحكيم، راجع نفسك ولا يغلبك الهوى والغرض، راجع ضميرك قبل ثورة 23 يوليو، وعلى مدى 3 سنين من هذه الثورة ثم انظر أين ينتهي بكم الطريق، طريق الحرية أقدس ما منح الله للإنسان.يجب أن تعلم يا عبد الحكيم رأي الناس فيكم وما يحسون نحوكم، لقد أصبحتم ويا للأسف في نظر الشعب جلاديه، نتيجة تدعو للرثاء وحصاد مر لثورة 23 التحريرية الكبرى، تتجرعه الملايين المستذلة بعد ما وضعت في تلك الثورة وقيادتها آمالها وأعطتها الكثير واستأمنتها على الكثير، على الحرية، ولكن أين الأمانة الآن، والله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، لقد بُددت الأمانة، لقد وئِدت الحرية، ونعيش هذه الأيام وكأننا في ليل لا يبدو له فجر.

يا عبد الحكيم لا تتصور أنني مبتئس بما جرى ولكنني حقيقة أشعر بالأسف وأقول «يا حسرة على الرجال» «يا خسارة على الثورة» وأشعر بذنب واحد وهو أن ثقتي غير المحدودة فيكم مكنت الطغيان أن يطلب هذا الشعب حريته وكرامته وإنسانيته ومهما كانت الشعارات الزائفة التي ترددت والإدعاءات التي تقال فالناس جميعا يعرفون حقيقتها والسلام».

لم تؤثر كلمات كمال الدين حسين النارية في نفس عبد الحكيم عامر، بل على العكس فقد جلس فور تلقيه الرسالة ليكتب خطابا ناريا يهاجم فيها صديقه القديم بضراوة ويتهمه بالتعاطف مع جماعة الإخوان الإرهابية، ويذكره بمؤامرات الإستعمار والرجعية على مصر، ويتهمه بالإنقلاب على الثورة بعد أن كان متحمسا متطرفا لقراراتها الإشتراكية، ويتهمه بالديكتاتورية وباختلال التوازن وبأن حالته النفسية أثرت على تفكيره، ويطلب منه أن يتقي الله في شعب مصر لأن الحرية لا يمكن أن تولد في ظل الدماء والخراب وفي ظل أناس يتكلمون باسم الله مفوضين منه، كان يبدو من سطور عبد الحكيم عامر التي نشر نصها الأستاذ عبد الله إمام في كتابه (عبد الناصر والإخوان المسلمين) أنه ليس مستعدا حتى لأن يفكر فيما تحدث عنه أو يراجع نفسه أو يطلب منه أن يجلسا لكي يتحدثا ويتناقشا، كان يبدو واثقا بلا حدود في صحة ما يقومون به، ثقة أكبر من التي منحها كمال حسين نفسه له ولعبد الناصر قبل سنين.

بعد أقل من عامين، وقعت هزيمة الخامس من يونيو اللعينة، كان كمال الدين حسين خارج السلطة بعد أن حصل على أمان لرقبته من بطش رفاق الماضي، وكان عبد الحكيم عامر واحدا من الذين تحملوا مسئولية الهزيمة، وعندما انتحر أو نحروه كان يحاول باستماتة أن يثبت أنه لم يكن المسئول الوحيد، وأن جمال عبد الناصر كان مسئولا معه عن كل ما جرى، وبالطبع لم يتذكر أحد في خضم كل ما كان يجري وقتها كلمات كمال الدين حسين ولا حسرته على الرجال الذين حصلوا على ثقة غير محدودة لم يكونوا أهلا لها. والآن وبعد كل ما جرى، تسكن القصة الحزينة المنسية أوراق ملف قديم متخم بمثيلاتها كُتِب على غلافه عبارة كان يمكن أن تغير أحوالنا لو تأملناها منذ قيلت قبل قرون: «السُّلطة المُطلقة مفسدة مُطلقة».

المصدر : جريدة الشروق

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *