حدث في مثل هذا اليوم قبل 39 عاما أن جئت إلى الدنيا، وتلك مناسبة كنت أتعامل معها كل عام بخفة واستهتار، إلى أن أصبحت أعاملها بجدية واحترام، منذ حدث في مثل هذا اليوم «الشقي» قبل 9 أعوام أن تعرض بعض من أصدقاءنا الواعدين المشرقين للقتل الجماعي في محرقة مسرح بني سويف، فتعلمت من رحيلهم الفاجع درسا تجدده الفواجع وتؤكده المواجع مفاده أن كل يوم تحصل عليه في البلاد التي تحب أبناءها مقتولين ينبغي أن تعامله كنعمة مهداة تستحق ألف حمد وألف شكر.
في مناسبة شخصية كهذه تتملك الإنسان «الدعيف» شهوة الحديث عن نفسه، ربما لكي يغلوش على حزنه لانقضاء عام من عمره، لكنني لضيق المساحة سأختار موضوعا مرتبطا بالهم العام، أجيب فيه على تساؤلات عدد من القراء عن صمتي على حملات الشرشحة والتخوين التي تصاعدت ضد شخصي السمين مؤخرا، ربما لأنهم ألفوا عني في السابق ولعا بالدخول في معارك شخصية للدفاع عما أكتب، لحسن الحظ وقد كان ذلك درسا متأخرا تعلمته أصبحت أعتقد أن أقوى رد للكاتب على من يكرهون كتابته ويحاربونها هو الإستمرار في الكتابة، خاصة وأني منذ قررت في فبراير الماضي أن أمنع نفسي من الظهور في برامج التلفزيون، لم أعد أراهن على شيئ سوى الكتابة، وقد ثبت أن رهاني صائب بحمد الله، فلو لم يكن ما أكتبه مؤثرا ومزعجا لما جلب كل هذه الإتهامات والشتائم والبلاغات والخوازيق ما ظهر منها وما بطن.
لمواجهة الأسئلة الجديدة والإتهامات المتجددة سألجا إلى إجابة قديمة ختمت بها مقالا بعنوان (الظهير الأيسر للمجرمين) كتبته في عام 2005 إثر اشتداد حملة صحفية كان رجال جمال مبارك يشنونها ضدي ويرددون فيها نفس ما يقال عني الآن بالحرف الواحد من بلاهات ستجد تفاصيل ذلك إن أحببت في كتابي (أوسكار الموالسة)، كتبت يومها «وربما كان هذا الحديث مناسبة للإجابة على أسئلة بعض القراء المحبين وبعض أهلي وأصدقائي عن ما الذي سيعود عليّ من وراء الكتابة عن هذا الموالس أو ذلك المتزلف أو ذيّاك المسئول، فالمفروض حسب رأيهم أنني وجدت لنفسي طريقا آمنا طريا سالكا في الحياة أعيش منه أحلى عيشة وأربي العيال وأنعم بخيرات مصر وأسير آمنا في كباريها ومحاورها، ويرى هؤلاء بعضهم عن حب وبعضهم عن كره أنه لاطائل من أن أعيش في دور البطل الراغب في إصلاح الكون لأن الكون لن ينصلح حاله وماأقوم به ليس سوى أذان في مالطة… ولكل هؤلاء أقولها وأعيدها: لست بطلا ولامناضلا ولن أكون. أنا فقط أصدق ماتقوله الحكومة أن هناك حرية وأنا أمارس هذه الحرية دون خوف مؤمنا أن توسيع هامش الحرية ليس بالتمني ولكن يؤخذ غلابا، كما أنني لست واعظا ولاقديسا ولاأدعي أنني على حق والآخرون على باطل، ولي أخطائي وهفواتي، ربما يختلف البعض مع ماأكتبه من أفلام أو مقالات أو قصص، هذا حقهم، لكن مايشرفني أن أحدا فيهم لايستطيع أن يذكر لي يوما أو حرفا كنت فيه موالسا أو منافقا أو مؤيدا لفساد أو ظلم أو قهر.
أما بخصوص صون النعمة التي أصبحت فيها فيعلم الله أنني لست أكتب ماأكتبه إلا تقديرا وعرفانا بنعمة الله عليّ التي نقلتني من شخص لايجد مايأكله إلى ما أنا فيه من خير وفضل وعدل، هذه النعمة هي التي تدفعني لأكتب ماأكتبه غير مبال بأحد أو هيّاب من خطر، متمثلا مقولة ذلك الشريف الجليل البطل الثائر مؤمن آل فرعون الذي قال شاكرا حامدا لربه «رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرا للمجرمين»، ومؤمنا أن أكثر ماهزم هذه الأمة التي كااااانت خير أمة أخرجت للناس أن كثيرا ممن أنعم الله عليهم من مثقفيها وأفراد نخبتها يتطوعون للعب في صفوف المجرمين في مراكز الظهير الأيمن والأيسر وحامل الراية بل وعامل غرفة الملابس إن لزم الأمر.
هؤلاء الذين أتوا من أصول متواضعة ومن بيوت فقيرة وسكنوا في شقق فوق السطوح واستلفوا ثمن اللقمة وخمِّسوا السجاير لكنهم ويا للعجب ما إن تمكنوا وحلت عليهم نعم الله، إذا بهم ينسون كل ماكان يربطهم بماضيهم وأفكارهم وأصولهم وناسهم وجذورهم، ويبدأون في الدفاع عن مصالح رجال الأعمال وعلية القوم أو وطيتها بمعنى أصح، ويطالبون بتحويل مصر إلى ملكية يستمر مبارك رئيسا فيها كيف ومتى شاء ويرث جمال فيها أباه كيفما يشاء، متوهمين أن مايفعلونه هو ما سيديم عليهم النعمة التي أصبحوا يرفلون فيها، متناسين أن شكر النعمة يكون بقول الحق ومحاربة الباطل والإفك والعهر، وأن الذي أغناك يمكن إذا لم تصن نعمته أن يفقرك أو يصيبك بمرض أو محنة أو كارثة بين غمضة عين وانتباهتها… ساعتها ياأيها الموالس ماذا ستقول لله عزوجل إذا سألك عن السبب الذي جعلك تنكر نعمته وتمارس تلك الرذيلة التي بُحّ صوت جماهير الكورة وهي تطالب الصحافة بأن تحضر لكي تراها، فإذا ببعض أقلام الصحافة تمارسها، حتى بات واجبا تعديل الهتاف الشهير ليصبح «إسمه إيه فين.. الصحافة أهيه».
مضت الآن تسعة أعوام منذ كتبت هذه الإجابة، لكنها لا زالت تمثلني كأنني كتبتها لتوي، صحيح أن أشياء عديدة تغيرت في واقعنا هي الوجوه والأسماء التي باتت تظلم وتقمع وتوالس للحكام الجدد وتلحس لهم الأعتاب وتغض الطرف عن جرائمهم. بالطبع، لا زال أمامنا الكثير لكي نرى تغييرا جوهريا يُصلح ما أفسده الدهر من عفن مُركّب استوطن العقول والضمائر والأرواح، وحتى نرى ذلك التغيير أو «نفطس» دونه، ليس على كل حالم به إلا أن يعمل ويصبر ويجتهد بطريقته، دون أن يدعي لنفسه العصمة أو امتلاك الحقيقة، سنحاول ترويض حزننا العميق والتعايش مع قهرنا المرهِق على الفرص الضائعة والدم المسفوك والغباء المجاني، لكننا لن نعترض على إرادة الله، وإن كنا سنسخر من غباء بعض خلقه من الحكام وأذنابهم، داعينه عز وجل أن يُقِرّ أعيننا ولو قليلا بتغير حال هذه البلاد إلى الأفضل لكي لا تضيع دماء شهدائها وتضحيات جرحاها هدرا، أما ما عدا ذلك وما دون ذلك، فصدقني أو لا تصدقني، ليس سوى مجرد تفاصيل تذروها الرياح.