لا يحن الناس إلى المستبدين لأنهم يحبون العبودية لله فى الله، بل لأنهم ببساطة يحنون إلى الحياة الأقل تعقيدا التى كانوا يعيشونها فى عهد المستبد الذى كان يعرف كيف يلقى إليهم بالفتات الكافى لإبقائهم على قيد الحياة، لذلك عندما يصبح ذلك الفتات نفسه صعب المنال، فلا تحدث الناس إذن عن خطورة الاستبداد على فرصتهم فى نيل حقوقهم كاملة، لأن قرارا واحدا يسهل حياتهم ويجعلها أقل تعقيدا سيكون أفضل من ألف خطبة عصماء عن فضائل الحرية ومثالب الاستبداد.
دعنى أحكى لك هذه الحكاية التى وقعت فى يوم 26 يناير 1994، كانت درجة الحرارة يومها تصل إلى عشر تحت الصفر، وكنت بمجرد خروجك إلى أحد شوارع العاصمة الرومانية بوخارست تتوقف على الفور عن الإحساس بأصابعك وقدميك وأذنيك ومقدمة أنفك من شدة البرد، لم يكن ذلك اليوم مثاليا لزيارة المقابر، خاصة أنه يوم عمل فى منتصف الأسبوع، ومع ذلك كله فقد كان هناك حشد بما يقرب من 150 شخصا يتجه إلى مقبرة (خينسيا) الشهيرة بشكل لفت انتباه الكاتبة الكرواتية سلافينكا دراكوليتش التى تروى لنا فى كتابها المهم
(المقهى الأوروبى.. الحياة فى أوروبا بعد انهيار النظام الشيوعى) ترجمة محمد شحاتة الشربينى كيف توقعت أن تكون تلك جنازة شخص مهم جدا، لكنها لم تر نعشا، وعندما سألت اكتشفت أن الجمع المحتشد كان فى طريقه إلى زيارة مقبرة الديكتاتور الرومانى نيكولاى شاوشيسكو الذى ما زال العالم يذكر مشهد إعدامه هو وزوجته على يد الثوار الذين اقتحموا قصره وأنهوا أسطورة دولته القمعية.كان ذلك اليوم ببساطة يوافق يوم عيد ميلاد شاوشيسكو الخامس والسبعين، فى حياته كان ذلك اليوم بمثابة عيد قومى ترفرف فيه آلاف الأعلام وترفع المزيد من صوره التى تملأ بالفعل كل أرجاء رومانيا، ويبث التليفزيون خطابه الذى يلقيه للأمة الرومانية من قلب أكبر ستاد كرة قدم ممتلئ عن بكرة أبيه بأبناء الزعيم الذين يشاهدون بصحبته أوبريتات تم صناعتها خصيصا لتحية الابن الأعظم لرومانيا، تتخللها خطابات يلقيها كبار المثقفين وقصائد يلقيها كبار الشعراء، لكن ذلك اختفى الآن،
وهاهو شاوشيسكو يرقد فى قبر ليس له شاهد، ولكنه بعد سنوات قليلة من رحيله وجد 150 مواطنا يذهبون إلى قبره في البرد القارس ليحتفلوا بعيد ميلاده حبا وطواعية، ولكى تثبت السلطة الحاكمة للاتحاد الأوروبى انفتاحها وسعة صدرها سمحت لهؤلاء بحمل أعلام الحزب الشيوعى الحمراء وزينة ورقية وصورة وحيدة لشاوشيسكو فى الوضع مبتسما.بعد لحظات من مشاركتها فى الحدث، أدركت سلافينكا أنها لا تشهد احتفالا بعيد ميلاد شاوشيسكو بقدر ما تحضر عرضا دراميا اجتماعيا واقعيا يعبر عن معاناة الكادحين فى ظل المجتمع الرأسمالى الجديد، حيث بدأ كل من المتحلقين حول قبر الطاغية يشكو من مصاعب الحياة بعد انهيار النظام الديكتاتورى الشيوعى، «سيدة تتذكر بحنين أيام شاوشيسكو التى كان يمكن لها فيها أن ترسل ابناءها إلى المخيمات الصيفية، وامرأة أخرى تشكو من أن راتبها أصبح يكفى فقط لشراء كيلو من اللحم شهريا، كانت دراما سياسية مرتجلة يخرج فيها أفراد من الشعب لإخبار مشاكلهم الشخصية لبعضهم أكثر من إخبارها لشاوشيسكو نفسه، فهؤلاء الناس لا يأتون ليتجمدوا فى الاحتفال بعيد مولد شاوشيسكو أو لمجرد إجلاله، بل أتوا معا لتذكر ماضيهم الأفضل…
كلهم بدوا فقراء وضائعين في معاطفهم البالية وأحذيتهم الجلدية وقبعاتهم الفرو. بالنسبة لهؤلاء البائسين كان شاوشيسكو مجرد رمز لكل ما عرفوه وتذكروه». من بين الجمع تعرفت الكاتبة على شقيق شاوشيسكو الذى كان وزيرا للزراعة فى عهده والذى يشبه أخاه كثيرا، عندما ناقشته حول ما يحدث اعترف لها « بصراحة أنه لو كان الاقتصاد أفضل من ذلك لما كانت هناك حاجة لبعث أخى إلى الحياة، ولكنه كلما يزداد سوءا تزداد حاجة الناس لإعادة أخى إلى الحياة».تقول الكاتبة الكرواتية بعد أن تأملت طويلا فى أحوال دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الأنظمة القمعية الشيوعية «يحتاج أى شخص أن يفهم أننا أبناء العالم الشيوعى، ما زلنا أطفالا بالمعنى السياسى، فنحن نحتاج إلى أب، شخص ما يعتنى بنا حتى لا نضطر للاعتناء بأنفسنا، فنحن لا نعرف كيف نكون أحرارا، ولسنا على استعداد لتحمل المسئولية، والنتيجة هى خيبة أمل ملموسة فى الواقع الجديد ما بعد الشيوعية، فكيف لا ينجح النظام الديمقراطى؟، الديمقراطية لا تنجح فقط لأن رؤساءنا يقولون إنها تنجح أو أن لدينا دستورا جديدا ديمقراطيا ونظاما تعدديا حزبيا وانتخابات حرة واقتصاد سوق حرة، ولكن الأهم أننا جميعا يجب أن نعمل على نجاح الديمقراطية، ولكى نعرف كيف نقوم بذلك نحتاج أن نتعلم من هؤلاء الذين سبقونا فى التجربة، ولديهم بعض الخبرة، ولكن من يريد الذهاب إلى المدرسة؟
ليس نحن بالتأكيد».لسنا أسعد حالا للأسف، نحن أيضا لا نريد الذهاب إلى المدرسة، ولا نريد أن نتعلم من الذين سبقونا فى التجربة، لأننا مشغولون بمحاولة القضاء على بعضنا البعض، أنصار الإخوان يتصورون أن ما يبكون عليه كان ديمقراطية أصلا، وأنصار السيسى ليسوا مشغولين بالديمقراطية أصلا، كثيرون يعتقدون أن مشكلة مرسى أنه لم يفرم فى الوقت المناسب، وكثيرون أيضا يعتقدون أن السيسى لم يفرم بما فيه الكفاية، والمواطن العادى يحلم بتحسن ظروفه الاقتصادية التى يدرك أنها يستحيل أن تتحسن طالما ظل الصراع الدموى قائما فى البلاد، ولذلك فهو مستعد لأن يمنح صوته لكل من يعده بحسم هذا الصراع ولو بالمزيد من الفرم، لكن الأيام ستعلمه أن الفرم يقتل الأجساد لكنه يحيى الأحقاد، وأن البكاء على الماضى لأنه أقل سوءا لن يصنع لك مستقبلا أفضل حالا، بل سيعيد لك الماضى فى نسخة أكثر شراسة وقبحا، وسيدرك فى وقت نسأل الله أن يعجل به أن الشعب الذى يظن أن مشاكله يمكن أن يحلها زعيم مخلص لا يحصل فى النهاية إلا على طاغية يفشل فى كل شئ، اللهم إلا فى خداع المعدمين الذين أدمنوا العيش على ما كان يلقيه لهم من فتات.وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.
المصدر جريدة الشروق