مجموعة سعودي القانونية

بلال-فضل

في حين اختار كثيرون التطبيل والتهليل والتفويض على بياض، وفي حين اختار آخرون الصمت والاكتئاب وتفويض أمورهم للمولى، اختارت تلك الفتاة أن تعلن رفضها لما يجري متحدية بأقوى سلاح لا تملك طالبة في سنها غيره: ابتسامة شجاعة وكفان مشهران في وجه أخطر أعدائنا في هذه اللحظة: الإجماع.أنت لن تراها في برامج التوك شو يتهافت المذيعون على التهليل لشجاعتها، ولن تقرأ لكبار الكتاب وهم يشيدون بتمردها، فهي لم تتمرد على سلطة يريد لها الملايين أن تسقط، بل هي تمردت على مجتمع الرأي الواحد الذي ربما استخدم معها الرأفة بسبب حداثة سنها فاعتبرها «مغسولة الدماغ»، وربما لو كانت أكبر سنا لاتهمها رسميا بأنها خائنة وعميلة و»طابور خامس» وما إلى ذلك من التهم التي لا يجد الملايين الآن أدنى حرج في توجيهها لكل من يفسد عليهم لذة أفيونهم الوطني المفضل: الإجماع.«هي بتعمل إيه.. حد ينزلها بسرعة.. ما ينفعش اللي بتعمله» هكذا تعالت أصوات بعض المدرسات غاضبة لتصل إلى مسامعنا عبر الفيديو الذي لم يره إلا رواد بعض المواقع الخبرية فهو لا يلائم النغمة السائدة التي توجب عرضه على جميع الفضائيات، لم تُرنا الكاميرا وجوه المدرسات المستنكرات، ربما كانت بعضهن ستقلن نفس عبارات الإستنكار لو وقفت طالبة ما من قبل لتعبر عن رفضها لحكم مبارك أو طنطاوي أو مرسي، لكن المؤكد أن نبرتهن كانت ستختلف في درجة حدتها، فهُنّ هذه المرة لا تعترضن رغبة في مجاملة الوزير القادم إلى المدرسة أو خوفا من غضبه، بل لأن تلك الفتاة أفسدت عليهن شخصيا بهجة الإجماع الوطني التي كانت ترفل فيها المدرسة.بالتأكيد كانت فتاة مدرسة المتفوقات بالمعادي محظوظة لأنها لم تتعرض للإعتقال كما حدث لزميلتين لها خرجتا على الإجماع الوطني في مدرسة للبنات بمحافظة الشرقية، ربما حماها وجود وزير التعليم الذي قال لمن حوله من المدرسين والصحفيين أنه يريد أن يراها «عشان أعرفها غلطتها»، وغلطتها كانت كما قال لها الوزير بأبوية ودودة أنها أدخلت السياسة إلى المدرسة التي هي مكان للعلم وليس للمواقف السياسية، لم يتوقف الوزير للحظة أمام حقيقة أن طلاب وطالبات مدارس الجمهورية من سن تلك الفتاة بل وأصغر شاركوا بكل شجاعة في كل الموجات الثورية منذ 25 يناير وحتى 30 يونيو، ولم يستوقفه أن آلاف المدارس التي يريد فجأة تحصينها من السياسة صارت ساحات لترديد رأي النظام الحاكم دون سواه، بل وأصبحت تعاقب كل من يخرج على ذلك الرأي أو يبدي ملاحظات عليه، حتى وصلت المهزلة ذروتها حين بتنا نقرأ في الصحف أخبارا عن عقاب مدرسين أو طلاب اعترضوا على تشغيل أغنية (تسلم الأيادي) التي صارت فجأة من أركان الوطنية، ولم يعد ينقصنا إلا أن يكون تسميعها جزءا من درجات أعمال السنة أو شرطا للعبور من الكمائن واللجان.لم يكن الوزير يتوقع طبعا أن الفتاة الشجاعة هي التي ستعرفه «غلطته»، حين أبلغته بكل تهذيب اعتراضها على مجيئه إلى المدرسة متأخرا عن موعده ليتم «رزع» الطالبات في الشمس لكي يدخل سيادته إلى المدرسة فيجدهن في حالة من الوطنية العارمة، الوزير مشكورا تعامل مع ما قالته الفتاة بلطف واعتذر لها بأن الطريق كان مزدحما، ثم طلب لها «كانزاية فيروز» لأنه شعر أن ريقها ناشف، ولحسن حظه ولحسن تهذيبها لم تطلب الفتاة له «كانزاية بيريل» لعله يقول كلمة حق توقف ما يحدث برعايته من تخريب لجوهر العملية التعليمية التي لن يفسدها إلا ذلك الهوس بالإجماع الذي يحول مدارسنا إلى «ثكنات» تعليمية يغيب عنها التنوع والإختلاف.كنت أتمنى أن لا يدعو الوزير الفتاة إلى مكتب مدير المدرسة لكي «يعرفها غلطتها»، لأن إبداء الرأي بتحضر ليس «غلطة» بل هو شرف تستحق عليه التحية والتقدير، كنت أتمنى أن يدعوها إلى طابور المدرسة لتقول لزميلاتها ما قالته له في مكتب المدير ونشرته بعض المواقع الخبرية عن أنها لم ترفع ما بات يسميه الناس بـ «إشارة رابعة» لأنها تنتمي إلى أسرة إخوانية كما افترض البعض من هواة التصنيف والتخوين، بل لأنها «ترفض القمع وفرض الرأي الواحد وتعارض الإنتهاكات التي حدثت لعدد من الطلبة والمدرسين في عدد من مدارس الجمهورية، لأنها تدرك أنها عندما تصمت على قمع من تختلف معهم ستتعرض هي لذلك القمع يوما ما».كان ينبغي على الوزير أن يقف لحماية تلك الفتاة وهي تعبر عن رأيها كاملا، ثم يدعو أحد زميلاتها المختلفات معها لمناقشتها، أو أن يرد عليها بنفسه ولو حتى بكلام منمق عن الوفاق الوطني وعدم الإقصاء والوطن الذي يتسع للجميع، لكن الوزير لم يخرج على النص الرسمي ولو حتى من باب التجديد، بل قرر أن ينحاز لسياسة «هاعرفها غلطتها» العقيمة التي تظن أن حالنا كشعب سيصبح أفضل إذا التزمنا بالمقرر وكتبنا ما يُملى علينا ورفضنا أي تفكير من خارج المنهج وابتهلنا إلى الله أن يأتي الإمتحان في حدود قدرات الطالب المتوسط، للأسف لم يفكر الوزير أن وقوف الملايين من طلاب الأمس في طوابير المدارس بالأمر لم يجعل منهم منظمين خارجها، وأن إجبارهم على رفع الصوت بتحية العلم عبر السنين لم يجعلهم جميعا مخلصين لمعنى العلم، ولذلك فإن إجبار طلاب اليوم على تصور واحد لشكل الوطن داخل «أسوار» المدارس لن يجعل شكل الوطن أفضل خارجها بالضرورة.في مقبل الأيام، لن يتذكر أحد اسم وزير التعليم الحالي ولا السابق ولا الوزراء اللاحقين إذا ساروا على نفس درب التدجين والتلقين، لكن إسم تلك الفتاة الشجاعة وإن لم تحتفي به وسائل الإعلام الراعية للإجماع، سيبقى بالتأكيد في ذاكرة ووجدان من يدركون خطورة الهوس بالإجماع الذي يحول البشر إلى أفراد في قطيع حين يسلبهم حق الإختلاف وحرية الرفض.حبيبة محمد، يا أيتها الطالبة الحرة الشجاعة الجدعة المتفوقة: ربنا يحميكي يا بنتي.

 

 

المصدر: جريدة الشروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *