“… كل ذلك، يا سيدي، أنا مؤمنة به. ولكن، ما أعجز عن الإيمان به، أو حتى تقبُّله، هو أن يجني أحد ثمرة كفاح الآخرين، بل ويتلذذ علناً بمذاقها الطيب، في حين يحرمون هم منها، فسيناء التي حررها أبي، وأمثاله، ودخلها محارباً مقاتلاً، صار الآن عاجزاً عن دخولها سائحاً يقيم في “لوكاندة” صغيرة ربع نجمة، وليس حتى نجمة واحدة.
لا أقول، إن أبي لم ينل شيئاً نظير تسع سنوات من أخصب سنين عمره، فقد حصل على شهادة تقدير مقابل ذلك. كان أبي يعتز بوجودها، ويصر على أن تظل معلّقة في الحجرة التي نستقبل فيها الضيوف، وهي، بالمناسبة، أنتريه متواضع، وليست صالوناً، على الرغم من شهرة محافظتي التي طبقت الآفاق في صناعة الأثاث، وذلك حتى يراها كل من يزورنا، ويراها كل خاطبٍ يتقدم إلى إحدى بناته. أقول كان يعتز، وأصر على تكرارها، لأنه أصبح، الآن، لا يهتم حتى بالسؤال عن مكانها، بعدما رفعناها من فوق الجدار، ليس سهواً منه، أو غفلة، وإنما لأنها فقدت معناها وقيمتها، ولم تعد تدل على ما كانت ترمز إليه في السابق من قوة، وهو يرى نفسه عاجزاً، على حد تعبيره، عن توفير مأوى آخر لنا، بدلاً من شقتنا التي يتساقط المطر متسللاً من شقوق سقفها، فوق رؤوسنا في الشتاء.
نعم، يا سيدي، فقدت شهادة التقدير حتى صلاحيتها لدى من منحوها له، حين وجد نفسه عاجزاً عن تسوية معاشه، لأنه وجد أن هذا المعاش سيكون في حدود 70 جنيهاً على الأكثر، لأن عمره ما زال 52 سنة، فهذه سن صغيرة بالنسبة لهم. فقدت شهادة التقدير أبسط ما ترمز إليه، وهو عودة ملكية الأرض إلى أصحابها، أتدري لماذا؟ لأن أبي عندما أراد الذهاب إلى أرض القمر التي شارك في تحريرها، في رحلة قصيرة مدة ثلاثة أيام، أو أسبوع على الأكثر، في إجازة أحد الأعياد، لم يستطع. ليس لأنه لم يكن يملك ما يدفعه اشتراكاً، نظير قيامه بهذه الرحلة، فحاشا لله أن أنكر نعمة ربي، وإنما لأنه وجد نفسه أمام خيارين، إما الرحلة أو توفير المبلغ لمصروفات التيرم الثانى بكليتي. وقد “حسبها كويس”، على حد تعبيره، وقضى الإجازة في البيت، “على الأقل أهو معانا”، كما قال.
قد يقول البعض إنني مستورة للغاية، أو من الأثرياء بالنسبة لهم، لأنني وجدت من يوفر لي مصروفات دراستي، بدلاً من أن أعمل بنفسي على توفيرها. وأقول لهؤلاء: أنا لا أشكو قلة المال، أو شدة الحاجة، وإنما أشكو ألماً أعانيه ويعانيه غيري، حين أجد أبي عاجزاً عن رؤية الأرض التي دفع ثمن حريتها، هو وأمثاله من عمرهم، في حين يستمتع من حاربوهم، وطردوهم منها، بتأشيرات دخول رسمية سليمة، تباركها الحكومة، بدعوى السياحة. نعم، هناك ألم شديد أعانيه، عندما أجد أن مجهود أبي، وغيره، ضاع هباءً، ليستفيد منه من لا يعرفون عن كلمة 6 أكتوبر شيئاً، سوى أنها اسم لكوبري به منزل شهير يقودهم إلى الزمالك.
أنا لا أتسول طالبة شيئاً أيّاً كان، سوى رد كرامة رجالٍ، أهدرت في زمن السلم، وليس في زمن الحرب، وفي يد من ينعمون بحريةٍ، دفع أبي وأمثاله ثمنها. نعم أنا مستورة والحمد لله، وسأظل أؤكد هذا. ولكن، على حساب من؟ على حساب صحة أبي وعمره، لأنه لا توجد أمامه بدائل أخرى. لن أصف لك حالته الصحية وما يعانيه، لأنني، كما قلت، لا أتسول، ولا أطلب شيئاً، وإنما سأخبرك باكتشافٍ آلمني للغاية، هو أنني وجدت نفسي، أخيراً، لا أشعر بالفخر إزاء ما فعله أبي؟ أتتصور هذا، تسع سنوات قضاها في حربين، هددتا حياته شاباً صغيراً، وخرج منهما شاباً ناضجاً في الثلاثين من عمره تقريباً، من دون إعاقة جسدية ظاهرة للعين، لا شيء سوى قرحة معدة من هول ما عاناه، فأبي، يا سيدي، وغيره، اضطروا، أحياناً، إلى شرب البول، إرواء لظمئهم، حين سار ستة عشر يوماً كاملة، حتى يصل إلى مكان آمن في نكسة 67 بعد أوامر الانسحاب، بل وشاهد بعينه أحد زملائه يموت ويطلب منه، وهو بين الحياة والموت أن ينهي آلامه برصاصة، لأنه “ميت ميت”، فعجز أبي عن ذلك… وأتخيل، يا سيدي، كيف كان سيصبح حال هذا البطل، وأمثاله، لو كان ظل على قيد الحياة بإعاقة ما”.
(مقاطع من رسالة ابنة بطل من أبطال حرب أكتوبر الحقيقيين والمنسيين، وصلت إلي في عام 1997، ونشرت نصها في كتابي الأول (بني بجم)، وكم كنت أتمنى ألا تظل صالحة للنشر).
المصدر:العربى الجديد