قد أكون قرفانا، وقد تكون أنت أيضا قرفانا، لكن قرفى بالتأكيد لن يكون مثل قرفك، لأن أسباب قرفى قد تتقاطع مع بعض أسباب قرفك، لكننى أمتلك أسبابا مختلفة تدعونى للمزيد من القرف، مثلما قد يكون كلامى الآن سببا مختلفا لتأكيد قرفك المختلف عن قرفى والمتقاطع معه فى نفس الوقت.
يعنى، قد تكون قرفانا وحزينا ومحبطا، بسبب تصريحات الدكتور حسام عيسى وزير التعليم العالى الأخيرة التى تلبسته فيها روح الدكتور سعد الكتاتنى، حين قال إن وزير الداخلية محمد ابراهيم قال له إن الداخلية لم تستخدم الرصاص أو الخرطوش لضرب مظاهرات طلبة جامعة القاهرة، بل استخدمت فقط «الرصاص المطاطى اللى بيلسع»، ولم يكلف الدكتور نفسه باستدعاء ذاكرته لعلها تقول له إن نفس وزير الداخلية كان يضرب المظاهرات التى اشترك فيها نفس حسام عيسى بالخرطوش وكان أيضا ينكر أن عنده رصاصا أو خرطوشا «وهو عنده جوه».
لن ألومك إذا أشعرتك هذه التصريحات بالقرف والحزن، فقد أشعرتنى بذلك، ولكن لسبب مختلف، فأنا يا سيدى لا يمكن أن أنسى يوم 28، وإذا كنت ممن يعرفون يوم 28، فأنت لست محتاجا لأن أعرفه بأنه يوم 28 يناير 2011 أو يوم جمعة الغضب العظيمة، يومها وفى حوالى الثالثة عصرا كنت أقف مع مجموعة من الأصدقاء الذين لا أعرف أغلبهم عند كوبرى الجلاء تحت تمثال رائد التعليم العالى الدكتور طه حسين، نتحدث عما ينبغى علينا فعله لمواجهة الهجوم الكاسح الذى تشنه الداخلية لإجلائنا عن الميدان، لم تكن مظاهرات الجيزة القادمة من امبابة والهرم قد وصلت لتنهى المسألة، كنت أحاول أن أتغلب على خوفى ببث روح التفاؤل التى ترى أن مبارك سقط خلاص والمسألة مسألة وقت لن يطول، وأنا أتحدث رأيت فى عمق الكادر المحيط بى وجه رجل كبير يبدو أنه يتنفس بصعوبة خلف الشال الذى كان يغطى به أنفه وفمه، تعرفت عليه بعد أن دققت فى ملامحه فأصابنى الحرج لأننى أتحدث وهو يستمع، قلت لمن حولى «يا جماعة ما يصحش الدكتور حسام عيسى يبقى واقف وما نسمعش رأيه».
لم يستطع الرجل وسط صوته المختنق بغاز الشرطة ودموع التأثر من احتفاء الناس به، أن يقول أكثر من أنه يحمد الله على أنه عاش حتى يرى هذا اليوم، مؤكدا أنه يتفق مع المتفائلين منا فى أن مبارك سقط وسيرحل بأسرع مما يتوقع الجميع، قبل أن يختنق فى نوبة سعال حادة جعلت بعضنا يرجوه أن يعود إلى بيته، لأن قنابل الغاز كانت تزداد كثافة وشراسة بشكل يعجز عن تحمله الشباب فضلا عن كبار السن.
عندما رأيت الدكتور حسام عيسى يحلف اليمين الوزارية تذكرت ذلك الموقف وبكيت من التأثر، تماما مثلما بكيت وأنا أرى الدكتور البرادعى والعم كمال أبوعيطة يحلفان اليمين، وكان لدى يقين فى أن هؤلاء الثلاثة بالذات أكثر من غيرهم سيكونون ضمان تأمين لأى محاولة لاختطاف موجة ثلاثين يونيو لمصلحة سلطة اللواءات، والآن وبعد كل ما جرى فى النهر من دماء، لم يكن ممكنا أن أتذكر ذات الموقف باكيا حين استمعت إلى تصريحات الدكتور حسام عن «رصاص الداخلية اللى بيلسع»، بل إننى على العكس استرجعت ما حدث يوم 20 بشكل مختلف تماما.
تخيلت الدكتور حسام يومها وقد احتدت عليه نوبة السعال بشكل متصاعد، ففقد وعيه، وبدأ يسلم الروح وسطنا كما حدث يومها لمواطن آخر، لن أنسى ما حييت كيف رقد على رصيف الجمعية الاستهلاكية الواقعة خلف محطة بنزين شارع التحرير وقد رفع إصبعى السبابة إلى السماء وأخذ صوته يخفت وهو يغالب الاختناق من الغاز، بينما الناس من حوله يصرخون طلبا للإسعاف، تخيلت نفسى أصرخ يومها «الحقونا الدكتور حسام عيسى بيموت يا ظلمة.. لاإله إلا الله.. يسقط يسقط حسنى مبارك»، والجميع مرتبكون يحاولون الوصول إلى سيارة اسعاف دون جدوى، قبل أن يزيد الارتباك بفعل قنبلة غاز جديدة تسقط فى المكان.
تخيلت كيف سيظهر مسئول رفيع حاصل على الدكتوراة فى القانون فى اليوم التالى ليؤكد أن الداخلية لم تضرب قنابل غاز تسبب الوفاة، وأن غاز الداخلية «بيخنق» لكنه لا يقتل، وأن الدولة بغض النظر عن أى ضحايا لن تفقد هيبتها ولن تركع أمام عناصر مخربة خالفت القانون وأرادت أن تنقلب على السلطة الشرعية ممثلة فى القائد محمد حسنى مبارك الذى تقف الدولة خلفه للحفاظ على هيبتها. تخيلت أيضا كيف خرجت احتجاجا على كذب الدولة مظاهرة حاشدة تطالب بإحالة قتلة المتظاهرين إلى العدالة، فضربتها الداخلية بالغاز والخرطوش والمطاطى والحى أيضا، وسقط قتلى وجرحى خرج الدكتور الوزير فى نفس اليوم لينفى سقوطهم ويعيد الحديث عن المؤامرة وهيبة الدولة، ثم عاد إلى بيته لتحتضنه زوجته ويقبله أولاده داعين له بالتوفيق فى الحفاظ على البلد، بينما كان الدكتور حسام عيسى قد تحوّل وقتها لمجرد رقم فى قائمة الضحايا الذين فقدوا حياتهم نتيجة للظلم والقهر وتواطؤ السياسيين من حملة الدكتوراهات مع سلطة اللواءات من حملة الرتب التى تحكم البلد منذ قديم الأزل.
الخبر السعيد أن كل ما سبق ليس سوى محض تخيلات، فالدكتور حسام عيسى حى يرزق بفضل الله وما زال فى منصبه، وما زال إلى جواره فى نفس الحكومة واحد من أبطال التظاهر السياسى فى مصر اسمه كمال أبوعيطة ولفيف من فراودة الليبرالية فى مصر، لكن الخبر الحزين أن هناك اسما جديدا أضيف إلى قائمة الضحايا هو الشاب محمد رضا طالب هندسة القاهرة الذى مات بعد أن تلقّى ثلاث رصاصات قاتلة، لينضم إلى قائمة الضحايا الذين لا يعاقب قتلتهم أحد، لأنه لم يتغير شىء فى بلادنا سوى أن سلطة اللواءات المسئولة عن قتل محمد استبدلت حلفاءها من الوزراء الذين لم يصلوا إلى منصبهم إلا بفضل مؤهلاتهم فى كتابة التقارير الأمنية، بحلفاء جدد من وزراء ومثقفين وإعلاميين كانت تُكتب لها عنهم التقارير الأمنية، ظنا منها أن ذلك سيحل مشكلتها، لكنها ستكتشف مع الوقت أن ذلك لن يغير شيئا سوى توسيع قائمة المجرمين التى ستظل مفتوحة لإضافة أسماء جديدة، طالما ظل العدل غائبا فى هذه البلاد