مجموعة سعودي القانونية

بلال-فضل

كانت تجربتى معه مريرة، لكنها جعلتنى أتمثل الحالة النفسية التى عاشها الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان عندما اكتشف تسرعه فى احترام ذلك الرجل المهيب الذى دخل عليه حلقته العلمية، فأجبره على أن يثنى رجله احتراما، لكن الهراء الذى سرعان ما تدفق من فم الرجل جعل أبا حنيفة يقرر أن «يمد رجله ولا يبالى»، وهو ما لم يكن سيكتفى به قطعا لو كان قد التقى بذلك «المهيب» الذى ساقه لى حظى العثر.

لم يكن ما جعلنى «أستهيبه» صوته الفخيم ولا وجهه الوقور ولا شعره الأشيب الذى يقوى تأثير نظارته السوداء، بل مبادرته لتعريف نفسه بأنه المهندس فلان رجل أعمال مقيم بالخارج منذ ربع قرن وصديق قديم لشخصية رائعة أحبها وأحترمها، وإيمانى بأن «من جاور السعيد يسعد»، جعلنى أقرر ألا أقطم معه فى الكلام لعلى أسمع رأيا أنتفع به، خاصة أن «دخلته» التى بدأ بها التعليق على أحداث الساعة كانت خاطفة.

«أنا بصراحة شايف كل اللى بيحصل دلوقتى عك بيعقد المشكلة بدل ما يحلها، لأن أساس المشكلة مع الإخوان فكرى وعشان كده غياب المواجهة الفكرية والثقافية والاكتفاء بالمواجهة الأمنية هيودينا كلنا فى داهية»، قال ذلك فنظرت إليه كما ينظر غريق ليد «مدت من شباك الموج»، وقبل أن ينبس فمى ببنت لثة، عاجلنى بسؤال لم يكن يقصد به الاستفهام، بل كان يقصد به التمهيد للضربة التى ستجهز على فرحتى بكلامه «إنت عارف إيه المنهج الوحيد اللى ممكن نمشى عليه دلوقتى ويحل لنا مشكلة الإخوان للأبد؟»، مجيبا على الفور «منهج الشهيد سيد قطب ما فيش غيره».

حتى حلقى المتعود على التحرك تلقائيا فى صدمات كهذه، بوغتت جذوره السكندرية، و«تبليمتى» جعلت المهيب يظنها طلبا للاسترسال ورجاءً بالإفاضة، فانهمر قائلا «سيد قطب وحده اللى هيساعدنا نقضى على فكر الإخوان المنحرف.. انت عارف إنه دخل الجماعة عشان يطهرها من فكر حسن البنا.. لكن هتقول إيه فى الماسونيين اللى مش سايبين مصر فى حالها.. عشان كده قتلوه ومن ساعتها والبلد بتسيطر عليها الماسونية سواءً عبدالناصر ولا السادات ولا مبارك ولا مرسى كل دول ماسونيين، وللأسف الإعلام سايب مواجهة الماسونية لناس تافهة بتشغل الشعب عن مخططاتها بمعارك عبيطة زى حكاية أبلة فاهيتا، حضرتك ساكت ليه إنت مش متفق معايا؟».

كان الجسد قد امتص صدمته الأولى، وكان العقل قد أخذ لفة سريعة فى ملف الضلالات الفكرية التى تروج فى البلاد، وكانت الروح قد أدركت أنه لا بد مما ليس منه بد، لذلك هربت إلى العبث اتقاءً لنقاش لا طائل منه فقلت له «أولا موضوع أبلة فاهيتا مش عبيط وإنما خطير جدا، ثانيا موضوع سيد قطب فى ناس كتير زى حضرتك مقتنعة بإن الحل فى سيد قطب وكتابه معالم فى الطريق»، توقعت أن يعلق على اسم الكتاب الذى اختصصته بالذكر لكنى فوجئت به يقول «فين أنا باتابع الإعلام مش شايف ده خالص»، فاكتفيت بأن أقول «أصل دول ما بيطلعوش فى الإعلام على طول بس بتسمع عنهم بعد كده».

بدا أن كلامى لم يثر فضوله أبدا، لأنه اختار أن يسألنى عن سبب خلافى معه فى موضوع أبلة فاهيتا، فأجبته بملامح جادة «للأسف الناس ركزت على الأبعاد السياسية لأبلة فاهيتا وده أصلا ملعوب ماسونى عشان يشغلنا عن الهدف الأخطر منها اللى هو استخدام الدمية دى فى نشر الشذوذ الجنسى وتدمير الطابع الأصيل للأسرة المصرية»، كنت أنتظر أن ترتسم على وجهه ملامح الاستغراب، لكنى وجدت بدلا منها ملامح التأييد التى لا تمانع فى أن تتحول إلى ملامح انبهار، فأكملت «هل حضرتك لاحظت أنه من ساعة ما طلعت الدمية دى ما قالتش أبدا هل هى فاهيتا لحمة ولا فاهيتا فراخ، ده مش معمول عبثا وإنما عشان يتم نشر اضطراب الهوية الجنسية والشذوذ واليونيسيكس اللى هو أنا آسف فى اللفظ ممكن يخلى الواحد يضاجع نفسه بنفسه من غير ما يضطر ينزل الشارع يوم الخميس الضهر».

لمست فى ملامحه نبرة تردد فى تقبل ما قلته، فأدركت خطأى فى تجويد العبث، وقررت أن أعود لإنسيابية العبث، فقلت «هل حضرتك لاحظت الرسائل اللى عايزين يوصلوها بأن أبلة فاهيتا تطلع أم عازبة أو سينجل ماذر زى ما بيقولوا الخواجات.. وإنها ترفض تطبيق الشرع فتتجوز بعد ما خلصت شهور العدة بدل ما تربى بنتها بعيد عن إطار الأسرة زى ما الشواذ.. للأسف كل دى مؤامرة بتحاك للأسرة المصرية اللى هى المنجز الحقيقى لينا.. إحنا بنحاك يا فندم وطبعا احنا لا حيلتنا تكنولوجيا ولا تصنيع ثقيل ولا تقدم علمى، ماحيلتناش غير الأسرة لو باظت هنعيش من غيرها إزاى.. يعنى مش الشاب هيتدمر لما يلاقى أمه اتأثرت بنموذج أبلة فاهيتا وسابت البيت عشان تعيش مع صديقة ليها عازبة ويقعدوا عالويبة يشذوا مع باقى الأمهات.. عارف لو أبوه قرر يصاحب زميله فى الشغل عادى الشاب هيفرح لأن البيت هيفضى وهيرتاح من وجع الدماغ.. إنما كله إلا الأم المصرية اللى ابتدا مخطط تدميرها من ساعة ما رحنا مؤتمر بكين لو حضرتك فاكره، الله يلعنهم بقى اللى كانوا السبب».

فوجئت به يهب من كرسيه نحوى، فبدأت تحضير نفسى لاشتباك أمد فيه قدمى ولا أبالى، لكننى فوجئت به يحتضننى كأننى جندى عائد من الجبهة، قبل أن يقول بصوت متهدج «ياريت كل الناس اللى بيطلعوا فى الإعلام بالوعى ده»، فجعلتنى نبرة صوته الحميمة أشفق عليه، لأقول ناصحا ومبرئا ذمتى «ربنا يخليك يا فندم.. أنا بس أتمنى رأيك فى سيد قطب بلاش تقوله لأى حد.. عشان مش أى حد هيصدق إن فكره كان هينقذنا من الإخوان.. الإعلام للأسف ملخبط دماغ الناس وممكن يفهموك غلط، وسوء الفهم دلوقتى للأسف بقى فيه خمس سنين»، إحساسه بصدق تحذيرى جعله يهز رأسه مقلبا الكلام فيها، قبل أن يقول بصوت متهدج «عندك حق والله هى أيام سودا ربنا يعدينا منها على خير»، وأنا وهو هتفنا من أعماق قلوبنا مثلما تهتف أنت الآن «اللهم آمين».

المصدر جريدة الشروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *