بلال فضل يكتب | أخي المواطن: كُل وأنت ساكت!
عندما عرضت في مقال الأسبوع الماضي ملخص آراء الراضين عما كان يجري في سوريا من قمع رهيب لكل المعارضين أو حتى المختلفين، لم يكن قد نُشر بعد حوار المشير عبد الفتاح السيسي مع وكالة «أسوشيتد برس» والذي يعتبر أبرز حوار قام بعرض رؤيته لحكم مصر بشكل مفهوم بعيدا عن السكتات الطويلة التي توحي بحكمة لا نرى لها في الواقع أثرا، ودون شوشرة يسببها الكلام المُدغم الذي يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا تأمله لم يجده شيئا. وربما كان سر اختلاف الحوار هذه المرة أن من حاور السيسي صحافيون يؤدون مهمتهم باحترافية واحترام لمهنتهم، دون أن يتخذوا من التطبيل ديدنا ومن «المحلسة» منهجا.
سأختار من الحوار فقرة أراها مدخلا مهما لفهم قرارات كثيرة اتخذها السيسي منذ تولى حكم البلاد فعليا عقب خطاب التفويض الكارثي، حيث يقول بالنص: «حقوق الإنسان اللي حضرتك بتتكلم عليها واللي كثير بيتكلموا عليها مش عايزين نختزلها في حرية التعبير عن الرأي، وإن كنت انا بحترم حرية التعبير عن الرأي، مفيش كلام، واللي متابع الاعلام في مصر هيجد انه بيتكلم زي ما هو عايز، أحيانا بيبقى حتى مبالغ في ممارساته لكن لا بأس في كده. فيه في مصر ناس كتير قوي بتعاني، وأنا متصور ان حقوق الانسان متجاوزاها في انه يعيش بشكل كريم ويتعلم بشكل جيد ويجد فرصة عمل حقيقية ده مش موجود، وانا بتصور ان احنا محتاجين حقوق الإنسان كفكرة وممارسة محتاجة انها تتطور علشان تعالج المسائل اللي انا بتكلم فيها. فيه ملايين المصريين موجودين بيعيشوا في أماكن لا تليق. فيه كتير من الشباب مبيشتغلش وده مش مقبول، من حقه انه يشتغل، انه يعيش، انه يبقى عنده بيت وعنده اسرة، ده مش موجود، انا بتصور ان ده من حقوق الإنسان. ومش كده وبس، وعيه، انه يبقى عنده وعي حقيقي بالواقع، ده من حقوق الإنسان».
أرجو أن تراجع كل ما استطعت إليه سبيلا من خطابات جنرالات سوريا والعراق وليبيا طيلة العقود الماضية لتجد أن رؤيتهم لحكم بلادهم كانت مطابقة للمعنى الذي يتحدث عنه السيسي، معنى ملخصه: «نعم حرية التعبير مهمة ولكنها ليست كل شيء، فهناك حقوق أهم للإنسان هي أن يأكل ويعيش ويتعلم، لذلك يجب أن يسكت حتى نوفر له ما يأكله، وعندما نوفره له عليه أن يأكل وهو ساكت لكي لا يعطلنا بكلامه عن التركيز على توفير الأكل له». وهي رؤية لعلك لا تحتاج إلى أن أذكرك إلى أين أفضت نتائجها بسوريا والعراق وليبيا، وبكل دولة لا ترى أن حق الإنسان في التعبير والرفض هو وحده الذي سيكفل له الحق الدائم في الرزق والأمن والكرامة.
منطق السيسي يوحي لغير المتابعين أن الذين يطالبون في مصر بحرية الفكر والتعبير والإعتقاد والتظاهر والعمل السياسي يفعلون ذلك لأنهم راغبون في الحقوق الثانوية أو يعشقون الرياضات الذهنية والسفسطائية، كأنهم لا يطلبون كل ذلك من أجل ضمان حقوق المواطنين في العيش الكريم وتكافؤ الفرص والعدالة الإجتماعية ورفض أن تكون هناك مؤسسات منزهة عن الحساب والعقاب والرقابة. لاحظ أصلا أن السيسي يتحدث كأن الإعلام في مصر حر لدرجة أنه يبالغ في ممارساته، وهو ما لا يمكن أن تفهمه إلا إذا وضعته في سياق شكواه قبل أسابيع من عنوان صحافي من كلمتين: «منورة يا حكومة»، يسخر من مسؤولية الحكومة عن انقطاع الكهرباء، مما يجعلك تسأل كيف سيكون رأيه مثلا لو قام الإعلام بطرح أسئلة جادة عما يجعل كبار الضباط والمسؤولين يعيشون في أماكن تليق، ويعمل أبناؤهم فور تخرجهم في مواقع يتمناها غيرهم، وما إذا كان هذا متسقا مع حقوق الإنسان «الأساسية» أم لا؟، أو لو قام الإعلام بمناقشة جادة لأسباب رفع ميزانية الجيش والداخلية والرئاسة وخفض ميزانية الصحة، الذي تشكو منه نقابة الأطباء في موقعها الرسمي لمن يرغب في التأكد من الأمر. أو لو قام الإعلام الذي يصفه بأنه حر بعرض مهازل التعذيب وإهدار حقوق الإنسان التي تحدث في أقسامه وسجونه، ليس فقط لمعارضيه بل لكثيرين ممن شاء حظهم العاثر أن يولدوا في بلد يعتبر المواطن الذي لا يعجبها مدانا حتى ولو ثبتت براءته.
في حواره يقدم السيسي منطقا كان يقدمه أيضا قادة سوريا وليبيا والعراق كرد على انتقادات المجتمع الدولي لإهدار حقوق الإنسان، فهو يتحدث عن انخفاض عدد الذين يتعرضون للتجاوزات والإنتهاكات لدرجة لا تجعل نسبتهم واحدا من كل ألف مواطن، ناسيا أنه أصلا شق طريقه إلى الرئاسة بكلام عاطفي عن أن أي أذى يصيب أي مواطن مصري لا يرضيه، فإذا به الآن وبعد أن تربع على سدة الرئاسة وسد المنافذ المؤدية إليها يعود لترديد نغمة الثمن الذي يمكن أن يدفعه البعض من أجل تقدم المجتمع، وهي نفس النغمة التي لا يوجد حاكم عربي إلا ورددها، بمن فيهم سيئ الذكر محمد مرسي الذي كان أخيب من أن تواتيه الفرصة لتطبيقها عمليا.
ليكتمل تأملك لمنهج السيسي في حكم مصر، راجع ما سبق أن قاله قبل أسابيع في حديث له مع رؤساء تحريره عن «أن الديمقراطية بشكلها الغربي ليست مناسبة لأوضاع مصر الآن، وأن مصر تحتاج إلى عشرين عاما على الأقل لكي تكون صالحة لذلك». وهي فكرة شديدة الخطورة سبقتنا إليها دول عديدة شرقا وغربا، فأضاعت كلها فرصا سانحة للتقدم والإصلاح، وظلت في تأخرها وخيبتها، حتى أدركت أن النظام الديمقراطي القائم على تداول السلطة وسيادة القانون وتكافؤ الفرص وضمان حرية التعبير بكافة أشكالها وضمان حقوق الأقليات هو وحده طريق التقدم الذي تكتنفه دائما صعوبات بل وكوارث أحيانا، لكن التغلب عليها لا يكون إلا بالمضي قدما في ذلك الطريق والتعلم من التجربة والخطأ. وهو ما جعل دولا مثل البرازيل وتركيا والأرجنتين وتشيلي وجنوب أفريقيا، على سبيل المثال لا الحصر، تقفز خطوات واسعة إلى الأمام، بعد أن ظلت لسنوات طويلة في القاع بسبب ابتلائها بنخب حاكمة روجت فكرة الخصوصية الوطنية التي تبيح المحظورات، ودغدغت أحلام الجماهير بغد أفضل، إذا سلمت لتحالف الجنرالات مع رجال المال بمباركة من المؤسسات الدينية.
والمشكلة أنك كلما تحدثت عن تجارب هذه الدول وجدت من يتصور أنه سيفحمك عندما يذكرك بممارسات خاطئة بل وإجرامية أحيانا قام بها قادة هذه الدول «المنتخبون». والمضحك أنك تجد هؤلاء يؤيدون أشد الممارسات الإستبدادية انحطاطا، ومع ذلك يتحدثون بلهجة المكايدة عن قمع أردوغان ودولما روسيف للمتظاهرين والصحافيين، وفساد إبن لولا دي سيلفا، وأخطاء حكام جنوب أفريقيا وتشيلي والأرجنتين، دون حتى أن يطلعوا على الإحصائيات الدولية المعتمدة التي تثبت تقدم هذه الدول التي أخذت التحول الديمقراطي بجدية. لعلهم يشعرون بالخجل من تأييدهم لعودة مصر إلى انحطاط عهد حكم الفرد، الذي ثبت بالتجارب أنه طريق هلاك البلاد مهما كان هذا الفرد صالحا أو وطنيا أو عظيم المناقب. وما أدخل سوريا والعراق وليبيا في هذه الأنفاق المقبضة مجهولة المصير إلا أن شعوبها استجابت لنداء قادتها الملهمين عندما طلبوا من كل مواطن أن «يأكل وهو ساكت»، لأنهم أدرى بمصلحته منه وأخوف على بلاده منه.
كان بريخت قد قال يوما: «تعيس ذلك البلد الذي يحتاج إلى بطل»، فأي بؤس إذاً هو بؤس البلد الذي يظن التعيس بطلا؟
المصدر:القدس العربى