بلال فضل يكتب | «مش أحسن ما نبقى زي مصر»
تندر الكاتب الساخر بلال فضل على العبارة التي يرددها المدافعون عن الوضع الحالي في مصر بقولهم “مش أحسن ما نبقى زي العراق وسوريا”، من خلال استعراضه لقصة مر بها عندما كان يزور سوريا قبل 12 عامًا، حيث كانت تسود حالة من الخوف بين السوريين من التعبير عن معارضتهم لنظام بشار الأسد، حتى إن أحد مرافقيه أطلق ساقيه للريح، بعد أن مازحه بعبارة ساخرة عن الرئيس السوري، خوفًا من أن يكون أحد ما سمعه. وإلى نص المقال الذي نشرته صحيفة “القدس العربي”: «مش أحسن ما نبقى زي مصر»! لم تكد تمضي دقائق لي على أرض سوريا حتى كنت قد أدركت أن الحذر في هذه البلاد ضرورة لا رفاهية. كنت قد زرت دمشق لأول مرة في عام 2002 في مهمة عمل للإشراف على إنتاج برنامج تلفزيوني من تقديم النجم السوري باسم ياخور، وكنت آنذاك قد قرأت وسمعت كثيرا عن فظائع استبداد النظام السوري وتنكيله بمعارضيه، لكنني للأمانة لم أكن أتصور أبدا أن يصل الأمر إلى قيام مواطن سوري بالجري مبتعدا عني لمجرد تعبير ساخر قلته. كان بصحبتنا يومها رفيق رحلة «غتيت» جعل سفرنا السريع قطعة حقيقية من العذاب، وحين خرجنا من قاعة الوصول في مطار دمشق المكتظة بشعارات الوحدة والإشتراكية وصور عملاقة لبشار الأسد وأبيه الراحل حافظ كشأن كل بقعة رأيتها في سوريا بعد ذلك، دفعني النزق لممازحة مندوب شركة الإنتاج الذي جاء لاستقبالنا ومرافقتنا إلى الفندق، فأشرت إلى رفيقنا إياه قائلا:»على فكرة الراجل ده أخو الريس بشار»، نظر المندوب الشاب له باهتمام شديد وعندما لاحظ أن ملامح وجهه السمراء لا يمكن أن توحي بصلة قرابة سألني: «كيف يعني؟»، قلت له «أصله ابن لـ… برضه»، وفي حين انفجر جمعنا بالضحك، قضى مرافقنا لحظتين من الصمت قضاهما في تجميع معنى ما قلته، قبل أن نفاجأ به يجري مبتعدا نحو موقف السيارات برغم أننا كنا نسير لوحدنا في الطريق المؤدي إليه ولا توجد فرصة لأن يسمعنا أحد. حين لحقنا بمرافقنا في السيارة كان مستاء بشدة، وبعد أن هدأه اعتذاري له إذا كان مزاحي قد أذى مشاعره، دارت رأسه حوله مئة وثمانين درجة للإطمئنان على عدم وجود حياة عاقلة في المنطقة المحيطة به، قائلا لنا بتوتر أن هذا النوع من المزاح غير مقبول هنا أبدا، وأنه ينصحنا لوجه الله ألا نظن أن كوننا غير سوريين سيعفينا من تبعات هذا المزاح. وما زلت أذكر من كلامه عبارة ظللت أستعيدها أنا وبعض رفاق الرحلة لسنوات: «مابتعرفوا المخابرات عنّا هون.. ولك بيحطوك في حِمِض بتدوب فيه ما حدا بيعرف إذا الله خلقك»، قبل أن يُمضي طريقنا إلى فندق الشيراتون في رواية حكايات عن فلان الذي اختفى منذ عشرة أعوام لأنه قال نكتة على مقهى، وعلاّن الذي لا يعرف أحد له أثرا بعد اختفائه لأن زوجته الغاضبة من خيانته أبلغت عنه بأنه يفكر في قلب نظام الحكم، مما جعلني أسترجع حكاية قالها لي صديق زار سوريا قبل سنين ـ وكنت قد ظننتها مبالغة ـ عن سائق تاكسي أخذه إلى أعلى جبل قاسيون المطل على دمشق وخرج معه من السيارة متجهين نحو منطقة خالية من البشر والشجر والطير، لينفجر عندها في وصلة سباب لحافظ الأسد وأهله وعشيرته ومن يتشددون له. كان رد فعل بعض الأصدقاء يومها على ما حكاه مرافقنا كلاما طبيعيا من نوعية «احنا نحمد ربنا بقى على اللي احنا فيه.. وقال احنا اللي مش عاجبنا مبارك.. على الأقل سايبنا نفك عن نفسنا بكلمتين.. مش انت واللي زيك اللي مش عاجبكم العجب.. احمدوا ربنا إننا مش زي الدول اللي بتروح فيها ورا الشمس عشان قلت كلمة». ولا أنسى أبدا أن المرافق قاطعني قبل أن أبدأ في مقاوحتي لهم قائلا أنه يرى أن النظام المصري لا بد أن يترك «الناس في مصر» تتكلم كما تريد لأنه لا يعطيهم أي شيء يمكنهم من الحياة، وبعد أن اعتذر إذا كان كلامه سيغضبنا قال أنه عندما زار مصر في العام الماضي لم يفهم كيف يتمكن الشعب المصري من مواصلة الحياة وسط كل ذلك الغلاء والتدهور التام في كل شيء، مضيفا أننا بعد أيام من المعيشة في سوريا التي نزورها لأول مرة سنفهم أن ما يدفع الناس للسكوت على كل ما يرونه من قمع للمعارضة، لأن النظام يوفر لهم كل شيء: التعليم بكل مراحله مجاني ومتميز، المستشفيات المتميزة مجانية، كل أسعار المواد الغذائية رخيصة بما فيها اللحوم والدواجن مقارنة بمصر وبأي دولة عربية أخرى، لأن سوريا لديها اكتفاء ذاتي في الغذاء، الدواء رخيص لأن سوريا لا تعترف بحقوق الملكية الفكرية وتقوم بإنتاج الأدوية العالمية في مصانعها، الأمن مستتب في كل ربوع سوريا، فلماذا إذن يحتاج الناس إلى الكلام أو الإعتراض؟ وفي حين تحول بعض أصدقائنا من الإشفاق على السوريين إلى النق عليهم، حاولت المقاوحة والرد على كلامه بأن كل ما يقوله كان متحققا بحذافيره في الإتحاد السوفييتي وفي كل الدول الشيوعية، ومع ذلك لم يمنع أوضاعها من التدهور ثم الإنفجار بعد ذلك، لكنه ربما لأننا اقتربنا من الفندق، أو لأنه شعر أن الكلام معي غير مجدٍ، أنهى المناقشة بكلام من نوعية «والله إحنا يا أخي في نعمة بنشكر الله عليها.. شو بتفيد الحرية لو مانّك قادر تعيش؟». لم تكن تلك المرة الأولى التي يقابلني فيها منطق (مش أحسن ما نبقى زيكو في مصر)، فقد صادفته قبل ذلك وبعده في الكثير من المواقف التي كانت تجمعني تحديدا مع أصدقاء «قومجية» من سوريا والعراق وليبيا، وهي الدول الثلاث التي أصبحنا الآن ويا للعجب نتخذها في مصر حجة لتبرير القمع الذي يتصور البؤساء من أبناء وطننا أنه يحمي الدولة من الإنهيار ويصونها من التفكك. كل أولئك الرفاق كانوا يتحدثون عن عبث الحرية إذا كانت ستصبح مجرد صراخ يهذي به إنسان لا يملك قوت يومه، وكلهم كانوا يطلقون تنظيرات حول شرعية عنف الدولة كضرورة لحماية شعبها، وكلهم كانوا يسخرون من الحرية الشكلية التي كنا نتمتع بها في مصر ويرون أن الله الغني عنها إذا كانت ستؤدي إلى تشتيت المجتمع عن الهدف الأساسي الذي هو بناء الدولة القوية القادرة على محاربة الإمبريالية والصهيونية العالمية. لكنني أيضا كنت ألتقي كثيرا في عدد من بلاد الله بمثقفين وفنانين من سوريا والعراق وليبيا، جميعهم محرومون من زيارة بلادهم التي غادروها ليمتلكوا حقهم في التعبير دون أن يتعرضوا للأذى والإضطهاد، وجميعهم كانوا يعتبرون حديثي عن هزلية المعارضة في مصر اللازمة كجزء من الديكور الديمقراطي بوصفه بطرا بالنعمة التي يتمنون ربعها، وجميعهم كانوا يروون وقائع خطيرة عن عفن الفساد الذي يسري في أوصال البلاد، بينما يظن أهلها أن كل شيء تحت السيطرة، وأنهم سيكونون آمنين إلى الأبد تحت قبضة البطش التي تحميهم وتعطيهم ما يجعلهم قادرين على الحياة، دون أن يلتفتوا إلى من يقول لهم أن ما يحصلون عليه ليس إلا الفتات مما يجنيه ويكنزه حماة الوطن وأنجالهم وأقاربهم ومحاسيبهم و»ألاضيشهم»، فقد كان لسان حالهم يقول: «نحصل على الفتات لنتمكن من العيش الكريم أحسن ما نبقى زي مصر». لكن ذلك كله كان قبل أن يسقط العراق في 2003 تحت قبضة الإحتلال، فقد سمعت بعدها في سوريا خلال زيارتي الثانية لها عبارة «أحسن ما نكون مثل العراق»، وتلك قصة أخرى نكملها الأسبوع القادم بإذن الله.