تأملات في وثيقة العدالة النادرة | رسالة عمر بن الخطاب الى ابي موسي الاشعري
تأملات في وثيقة العدالة النادرة | رسالة عمر بن الخطاب الى ابي موسي الاشعري
بقلم : ابراهيم عبد العزيز سعودي
يقول عليه الصلاة والسلام “إن الله جعل الحق في قلب وعلى لسان عمر” ، ما أعظم القائل ، وما ابدع القول ، قليلون هم الذين اختصهم الله من بين البشر ليكونوا بين الناس عدلا يمشي على الارض ، وجعل الحق الذي هو غاية كل عدل قرينهم بيانا في اللسان ، ويقينا في القلب والجنان ، قضاءهم الحق الذي لا يختل به الميزان ، وقولهم الفصل الذي لا يعتل به البنيان ، ولو سألت المنصفين بطول التاريخ وعرضه عن العدل الذي يمشي على قدمين لكان ولا ريب عمر بن الخطاب ، ولا يحتاج عمر في ذلك لشهادة شاهد ، فها هي وثيقته التاريخية النادرة تشهد له وتشهد عنه، رسالته الى ابي موسى الاشعري حين ولاه القضاء ، ، هذه الوثيقة التي طالما تأملتها فازددت اعجابا على اعجاب بهذا العبقري الذي لم ير سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم عبقريا يفري فريه ، هذه الوثيقة التي جمعت مبادىء العدالة فاوعت ، واحاطت بقواعد القضاء فأرست ، ومهما كتب الكاتبون أو بحث الباحثون فلن تجد لمثل هذه الوثيقة مثيلا ، ولا تحتاج لغيرها بديلا ، هذه الوثيقة التي قيل عنها أنها تضمنت المبادىء الاساسية في القضاء وطرق التقاضي وآدابه وهي تصلح دستورا للقضاء في كل عهد وزمن ويجب أن يقوم على أساسها كل تشريع حديث .
لنتأمل معا هذه الوثيقة التي تحتاج وصاياها الى الوقوف معها واحدة تلو الاخرى ، والتي يبدأها الفاروق بقوله ( من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبي موسى الأشعري السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) استهلال بديع من حاكم يرى نفسه عبدا لله قبل أن يكون أميرا للمؤمنين الى قاض لا يصح ابدا غير ان يكون واحدا كغيره من الناس لا تسبقه الالقاب ، ولا تعنيه المناصب يقول عمر في الوصية الأولى (( أما بعد فإنَّ القضاء فَريضةٌ محكمة وسُنّة متّبعة )) وفي ذلك بيان واف لحقيقة القضاء ووظيفته في سنن الكون ، فالقضاء ليس مزية لصاحبة ، ولا سلطة يعلو بها على الاخرين ، بل فريضة عليه محكمة ، وسنة واجبة الاتباع ، وهكذا يجمع وجوب القضاء في الخصومات بين الفرض الواجب والسنة المؤكدة الاتباع ، والقاضي الذي لا يفصل في خصومة استوت لديه اركان الفصل فيها انما يضيع الواجب ويهمل السنة ، فلا يستحق ان يكون قاضيا ، وهذا الذي تسميه الدراسات القضائية والتشريعات الحديثة بجريمة انكار العدالة ، وهي التي يقصد بها امتناع القاضي عن اصدار الحكم في حين تكون الدعوى صالحة للفصل ، ولا يمنعه مانع من القضاء فيها . ثم يوصي عمر في الثانية ((فافهَمْ إذا أُدْلِيَ إليك فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحقّ لا نفاذَ له)) ، الله الله يا عمر فما قيمة التكلم بالحق ان كانت اذن القاضي لا تسمع ، وماقيمة السمع ان كان القاضي لا يعلم ، وما قيمة العلم ان كان العقل لا يفهم ، فمهما اوتي صاحب الحق من فصاحة اللسان ، أو بلاغة البيان ، فلن ينفذ للعدل وبينهما حاجز من الكبرو الجهل ومانع من الفهم والعقل . ثم تكون الوصية الثالثة الخالدة (( آسِ بين الناس في مجلسك ووَجهك حَتَّى لا يطمَعَ شريفٌ في حَيْفك ولا يَخافَ ضعيفٌ من جَورك )) وهذه ما عرفه فقه العدالة بمبدأ المساواة امام القضاء ، في المجلس وفي النظر وفي الحديث وفي تكافؤ الفرصة في الدفاع ، هذه المساواة التي هي حجر الزاوية في الفقه الدستوري الحديث ، وهي رمز الكرامة الآدمية ، ويقول بن القيم في التعليق على ذلك : ” اذا عدل الحاكم ( القاضي ) في هذا بين الخصمين فهو عنوان عدله ، فمتى خص أحد الخصمين بالدخول عليه أو القيام له أو الاقبال عليه أوالبشاشة له والنظر اليه ، كان عنوان حيفه ، وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو اقبال مفسدتان : احداهما طمعه في أن يكون الحكم له فيقوي قلبه وجنانه ، والثانية أن الآخر ييأس من عدله ويضعف قلبه ، وتنكسر حجته “ ويمضي عمر في وصاياه البديعة فيوصي في الرابعة (( البيِّنةُ على من ادَّعى واليمينُ على من أَنكَر )) ، وهذه القاعدة التي يرسيها عمر رضي الله عنه صارت بعد ذلك الأصل في قواعد الاثبات ، فلا يخلو من النص عليها قانون للاثبات على وجه الارض ، وان اختلفت الالفاظ وتبدلت الكلمات ، فالبينة على من ادعى يستوى في ذلك الاثبات المدني أو الجنائي ، والبينة على من ادعى تقوم في وجهيها اثباتا ونفيا فان جاء المدعي بالبينة اثباتا ، كان للمدعي عليه او المتهم ان يأتي ببينة تنفيها ان كانت له البينة ، وكأن البينة على من ادعى قاعدة للخصمين وليست لاحدهما ، فمن يدعي واقعة عليه اثباتها ، ولا يفوت عمر ـ في هذا المقام ـ ان من الناس من يكون لديهم الحق غير انهم يعوزهم الدليل ، فلا يكون مفرا من الاحتكام الى الايمان النقي والضمير السوي فيكون اليمين على من انكر . ثم يقول في الخامسة (( والصُّلْحُ جائزٌ بين المسلمينَ إلا صلحاً حَرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً )) ، ولنتأمل معا هذه الوصية التي قد يغفل البعض عظيم شأنها فهي وان اجازت الصلح بين الناس بحسبه خير طريق لانهاء الخصومة فلا يصح ان يكون هذا الصلح محررا من قيود وضوابط المجتمع والمصلحة العامة ، فيما عبر عنه الخليفة العادل بالمصطلح الاسلامي الاعم مخالفة الحرام والحلال ، ولنتأمل مثلا تشريعا حديثا أقر الصلح في جرائم القتل والاصابة الخطأ ، حتى وان قامت على اهمال او رعونة او عدم اكتراث بارواح الناس وامواهم ، ففتح الصلح فيها مفسدة عظيمة على المجتمع اذ زاد استهتار المستهترين ، وعلى من يهوى علم الاحصاء ان يراجع الزيادة المخيفة في حوادث الطرق بعد اقرار جواز التصالح في هذه الجرائم . وهذه الوصية السادسة (( ولا يمنعنَّك قضاءٌ قضيتَه بالأمس فراجعتَ فيه نفسَك وهُدِيت فيه لرُشْدك أن تَرجِعَ عنه إلى الحقِّ فإنَّ الحق قديمٌ ومراجعةُ الحق خيرٌ من التَّمادِي في الباطل )) ، وتستحق هذه الوصية الوقوف طويلا عندها ، هل يحق للقاضي ان يتراجع في حكم اصدره ، واعلنه للناس ، اليس في ذلك ما تتزعزع به الثقة في القضاء ، ويهتز معه يقين الناس في العدالة ، غير ان المتأمل في وصية عمر المدرك لظرفها التاريخي ، يدرك سريعا ان عمر لا يخاطب ابي موسى الاشعري بوصفه قاضيا يفصل في خصومه ، بل بوصفه رجلا يتحمل ولاية القضاء بوصفه قاضيا للقضاة ، فهو يخاطب فيه النظام القضائي ، وكأنه يوطد بذلك لواحد من المبادىء الراسخة في علوم القضاء الحديث وهو مبدأ تعدد درجات التقاضي ، فالمراجعة هي في الاصل مراجعة للحكم ، سعيا للحق الذي هو قديم والمراجعة فيه خير من التمادي في الباطل ، فلا يصح ان يقوم نظام قضائي على اصدار الاحكام بغير ان يقترن معها الحق في مراجعة هذه الاحكام ان كان ثمة مطعن عليها أو مظنة للحيف فيها .
وتأتي الوصيتان السابعة والثامنة لتوجزان في اعجاز فريد مفهوم الاجتهاد عند القاضي فيقول في السابعة : (( الفَهمَ الفهمَ عندما يتلجلج في صدرك ممّا لم يبلغْك في كتاب اللَّه ولا في سنَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم )) وفي الثامنة (( اعرف الأمثالَ والأشباه وقِسِ الأمورَ عند ذلك ثم اعمِد إلى أحبِّها إلى اللَّه وأشبَهها بالحقّ فيما ترى )) ، وكأن هاتين الوصيتين تحددان شروط اجتهاد القاضي ، فالقاضي المجتهد لا يجتهد بغير علم او فهم ، فالفهم الفهم أولا ، ولا يكون الاجتهاد الا فيما لم يبلغك فيه علم ، فان بلغك العلم كتابا أو سنة ، تشريعا ، أو مبدأًا مستقرا فلا موضع للاجتهاد ، وحتى تجتهد يتعين عليك اولا أن تحيط علما بالامثال والاشباه والقياس ( وهو ما يطلق عليه حديثا السوابق القضائية أو المبادىء التي ترسيها أحكام القضاء ) فاذا تعلمت ما وسعك العلم ، واجتهدت ما وسعك القضاء كان لك حينئذ ـ وليس قبل ذلك أن تستخدم سلطتك التقديرية فتعمد بقلبك النقي الى احب الامور الى الله وأقربها الى الحق فيما ترى . أما الوصية التاسعة (( واجعلْ للمدَّعِي حقّاً غائباً أو بيّنة أمداً ينتهي إليه ، فإن أحضَر بيّنَته أخذت له بحقّه وإلاّ وجّهتَ عليه القضاءً فإنّ ذلك أنْفىَ للشكّ وأجلى للعَمَى وأبلغُ في العُذر )) فالعدالة في هذه الوصية يتعين أن يكون لها أجلا محكم التقدير ، فلا يصح أن تكون متسرعة فلا تمنح صاحب الحق من الوقت ما يعد به الدليل والبينة ، أو تسلب المتهم حق تهيئة دليل براءته ، كما لا يستقيم أن تكون العدالة بغير أجل محدود ، فيمتد أمد التقاضي بما يجعل العدالة البطيئة أشد قسوة من الظلم . ويقول عمر في وصيته العاشرة (( المسلمون عُدولٌ بعضُهم على بعض إلا مجلوداً في حدٍّ أو مجرَّباً عليه شهادةُ زورٍ أو ظنيناً في وَلاءٍ أو قرابة فإنّ اللَّه قد تولّى منكم السرائر ودَرأَ عنكم بالشبهات )) وهي الوصية التي تتناول ضابطا آخر من ضوابط الاثبات هو ضابط الشهادة ، ومعيار الشاهد العدل ، فلا شهادة لمن سبق القضاء عليه بعقوبة تمس له خلقا او دينا او نزاهة ، ولا شهادة لمن سبق له الشهادة بالزور ، ولا شهادة لمن تجرح شهادته مظنة لولاء أو القرابة ، فان روعيت هذه الضوابط فالكل عدول لا فارق بين شهادة الحر وشهادة العبد ولا تمييز بين شهادة الرفيع القدر وشهادة الوضيع القدر الا بمقدار ما تنطق بالصدق وتوافق الحق . أما الوصية الأخيرة فهي درة الوصايا وخلاصة القول ورسالة الضمير إذ يقول : (( ثمّ إياك والقلقَ والضّجر والتنكُّرَ للخصوَم في مواطن الحقّ التي يُوجب اللَّهُ بها الأجر ويُحْسِن بها الذُّخر فإنّه من يُخلِصْ نيّتَه فيما بينه وبين اللَّه تبارك وتعالى ولو على نفسه يَكْفِهِ اللَّه ما بينَه وبين الناس ومَن تَزيَّنَ للناس بما يعلم اللَّه منه خلافَ ذلك هتَكَ اللَه سِتْره وأبدى فعله فما ظنُّك بثواب غير اللَّه في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام عــلـيـك )) وهذه خاتمة الوصايا ودرة تاجها ذلك أن خلاصة الخلق الرفيع للقاضي رحابة القلب وسعة الصدر لا ضجر ولا ملل ولا قلق ولا ضيق ، انصياع للحق وانقياد له في السر والعلن ، فلا تنكر للحق بكبر واستعلاء ، فالحق يعلو ولا يعلى عليه ، فان اخلص القاضي النية كفاه الله شر الخصوم من الناس فيكشف له الكيد ويهدي قلبه للحق ، ولا يصح انيكون ذلك ادعاء منه في العلن يخالف ما يبطنه في السر ، لأن الله يهتك ستر من يتخذ العدل زينة امام الناس ، وتكون حياته الخاصة مثلا للظلم والجور على حقوق الناس . هذا عمر وهذه وصاياه التي سنت لمن بعده دستورا يسيرون على هديه في الاحكام وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .