تريزا جبران تكتب | يوميات مواطن في جمهورية تحيا مصر
مع إشراقة الشمس ..وصوت العصافير الذي لا تكاد تسمعه بسبب صوت الكلاكسات ..يدخل الحر اللعين من الشباك مع رائحة عوادم السيارات
تفتح عيناك منزعجا وتقوم باكراً لا لتنظر من الشباك لجمال الطلة.. بل لتفتح التكييف ..ثم ما تلبث أن تتذكر أن النور مقطوع
– معلش استحمل عشان مصر هكذا يخاطبك الضمير بالعامية.
يتعكر مزاجك لانك لم تنل قسطا وافيا من النوم بسبب الحر والرطوبة ولعدم قدرتك علي تشغيل التكييف طوال الليل إما بسبب النور الذي كان ايضا مقطوعا فترات متقطعة اثناء الليل او بسبب انك تحاول جاهدا التقشف حيث أنه ينتابك فوبيا فاتورة الكهرباء وهي فوبيا جديدة ستنضم لقائمة المخاوف و ستسجل مصر براءة اكتشافها
تحاول أن تنفصل عن واقعك بالدخول إلي العالم الإفتراضي ..ربما تشارك خبرتك مع الاخرين تنفيثاً او تطالع الأخبار الجديدة بتعليقات المتابعين عليها فتتناسى تكديرك…وسوق الكلام في مصرنا عظيم ! الكل يبيع و يشتري بتلقائية مبهرة ..وإن كانت بضاعتك ركيكة عوقبت بالانفولو او البلوك حسب درجة الجرم ورأي السادة المحلفين.
تكتشف ان المتبقي من شحن الموبايل الخاص بك حوالي ٣٥٪ ..تقول ربما يأتي النور عاجلا .. تطالع عناوين اخبار عن بلد يبدو أنه شقيق يصرح فيه وزراؤه انهم يعملون من اجل راحة المواطن وان مشاكل الكهرباء ستحل الشهر القادم ..وحكومتها تبكي من فرط حبها لشعبها ..ورئيسها يدعو الله ان يساعدهم ..ويرسل لكل مواطن قبلة .. وأن أهلها فرحون نشطون..مصدقون لكل التصريحات وتفر الدمعة منك راغبا في السفر لتلك البلد لتفاجأ من الهاشتاج انهم يتكلمون عن مصر!
– ايوة بلاش سلبية بقى! شوفوا الحاجات الكتير اللي اتعلمت واشكروا ربنا ..هذه مداخلة من ضميري
ربما انت قاسي بعض الشئ وناقم لأسباب شخصية وربما انت غير وطني طالما تفكر فيما تقرأ..هكذا ..بنقد وليس بإيمان العابد الغير متسائل..هكذا يقيم معك عقلك الواعي حواراً بشياكة ليقطع المشهد صوت ارتطام ..
– لا ليس زلزال.. ابدا لم يكن سوى صوت ارتطام زبالة الجيران التي يحدفونها من المنور ..
– لا توجد نوادي كافية بسعر رخيص كيما يتعلم الشعب كرة السلة ..فيمارسونها بالزبالة..يحدفونها بدقة الا انها تصيب بعض الشبابيك اثناء تسديد الرمية!
المهم تخرج من المنزل ..تتوجه نحو الجراچ لتأخذ سيارتك الصغيرة ..
– الشهرية يا أستاذ !
– كام ؟
– كام ايه زي كل شهر ٢٥٠ جراچ و ٥٠ سايس
لم يكن هذا صوت الضمير ..كان صوت السايس
تدفع صاغراً و تركب السيارة فتكتشف انها بحاجة لبنزين..تذهب للمحطة
– حط لي ب ٥٠ جنيه لو سمحت ..وهو المبلغ الذي يكفيك لتحصل علي وقود ثلاثة أيام ..بالكاد..
– استحمل دة في امريكا البنزين غالي؟!
وهنا تريد تسديد لكمة لهذا الضمير المتواطئ ..يحدثك عن سعر البنزين في امريكا ولا يخبرك كم يحصل المواطن هناك علي حياة محترمة وماديات تحفظ كرامته.
كنت تود بيع السيارة واستعمال المترو رغم الحشر الشعبي لولا انك متزوج ولولا ان زوجتك قد حبست في احدى عربات المترو وقت انقطاع التيار الكهربائي..فلا تريد ابدا الخوض في تجارب مرعبة مماثلة.
تركن سيارتك بعد عناء شديد قرب محل عملك تتركها لحيظات لتفاجئ بكلابش يحفظها آمنة في الشارع من الخطف والسرقة ..
– برده فيه تقدم اهو وخدمة للمواطن..مش عارفين تشكروا!
تقف منتظرا في الأفق هلول سيارة الكلابش تأتيك بعد ساعة كيوم العيد ..وتدفع صامتا بميكانيزم متعارف عليه خمسون جنيها
– كله فدا البلد! اعترض بقى على النظام كمان!!
– يظهر سايس الشارع الذي لا تعلم ممن يؤجر المكان ليأخذ منك ٥ جنيهات في مقابل الركن بعيد عن الكلبشة.
المصعب لا يعمل ..لا بأس ..تطلع سلالم المبنى .. لاهثاً.. تبدأ في التركيز في عملك وإذ بعامل البوفيه يوقف عجلة إنتاجك متسائلا عن حساب البوفيه الشهري الشامل علي إفطار يومي من عربة الفول لتدفع ٧٠ جنيه وانت تتمتم في سرك انك لابد ان تصوم او ان تتبع حمية غذائية.
ومن الإيجابيات ان وزارة الكهرباء أجبرت قطاع الاعمال على منح العاملين ساعة راحة وسط النهار ..الساعة غير ثابتة ..فهي حسب التوقيت المحلي لقطع النور في المنطقة ..
تستفيد من هذه الساعة ان تركن رأسك قليلا علي كرسي المكتب ربما تغفو دقيقة وترتاح..
يأتي النور بعد ساعة بالتمام لتقود عجلة الانتاج مرة اخرى..
ينتهي اليوم ..تتوجه للسيارة فتخبرك زوجتك ان النور مقطوع بالمنزل ..فتتوجه الي كافيه بأي مكان مكيف فقط لتتنفس.. تحاول إيجاد صديق لتجلس معه ساعة ..تتبادلون فيها المودة والشركة اللطيفة التي يصر دائما ڤيلين المشهد ان يفسدها حين يحضر لك الساقي فاتورة اتنين كافيه ومياه معدنية ١٠٠ جنيه ..
ترجع للمنزل متهالك متساقط من قلة النوم ..المياه غير باردة بالقدر الكافي بسبب انقطاع الكهرباء
تجلس مع أسرتك في مودة ورحمة فتخبرك زوجتك انكم بحاجة لشراء لحم وخضار وفاكهة وجبن وساندوتشات ودوا حساسية لابنك الصغير وحذاء له ..تعطيها ٦٠٠ جنيه ..ترمقك الزوجة في إطالة نظر تعرف ان معناها انها محرجة ان تعلق علي المبلغ ..فتعطيها ٤٠٠ جنيه اخرين متجنبا نظراتها ..هاربا الي غرفتك..
فتذكرك ان عليكما دفع فواتير الموبايلات ذات الخمسين جنيه اشتراك (رغم انك تدفع قرب المائة بسبب زيادات لا تدري من اين تأتيك وكيف يحسبونها وضرائب ) وشحن كروت للأولاد.
تبدأ في عد ما صرفت في هذا اليوم وما عليك صرفه بقية الشهر و تتعقد معدتك حينما تلوح الذاكرة بمشهد فاتورة الكهرباء و قسط البنك والغاز وإيجار المنزل ..
– انت اتبرعت لتحيا مصر ؟ هنا لا تحتمل صوت هذا الضمير الحكومي ! ماهذا ؟ أزرعوا شريحة شيوعية لكل مواطن على غرار عفريت لكل مواطن ؟!
تفتح التليفزيون لتجد مذيعين يبكون من فرط حبهم للمسؤولين و فتاة فقيرة تتبرع بمالها و يأخذه منها مسؤول كبير
– معاهوش يديها .
ماهذا البلد الشقيق الذي يظهر في التلفاز حيث يسحل المواطن فداءا للحكومة ؟! و يؤنب ويعتب عليه عدم التعاون! ويمارس عليه تخديراً وطنياً؟!
تهرع الي تويتر : اعتقالات ..خطف..محبوسي رأي في بلد تتباهى بالديمقراطية ..تعليقات تصريحات وتعليقات ..سوق الكلام لا يغلق أبوابه والوجع من الأخبار لا ينقطع!
تختلس نظرة الي فيسبوك تجدهم يحتفلون ويتزوجون ويتشاركون صورا وإنجازات عميقة حدثت في مصر لا تدري كيف لم تعلم او تشعر بها .. فيحضرك مشهد عبد الحليم حافظ وهو يغني جئت لا اعلم من أين ولكني أتيت ..!
– تحاول ان تغفو قليلا لينبهك صوت زوجتك ..عايزين نطلع فلوس من دفتر التوفير نحطهم في الشهادات أم ١٢٪ دي . بس مش هناخد الفلوس قبل ٣ او ٥ سنين ..
– ساهم يا اخي في صناعة التاريخ ..! اسمع لصوت ضميرك مرة واحدة يا أخي
– حاضر
ثم تأخذ وضع النوم لتلحق ساعة مكيفة الهواء قبل ان يأتيك في غفلة هادم اللذات و معكر النوم.
تتذكر ان الشتاء قريب..تبتسم لهذه الفكرة ..تمد يدك في خيالك لتمسك بهذا الضمير المدسوس
فينظر اليك في تحدي : هاتبقى أد الدنيا انا باقولك اهو ! انت فاهم! ..تضع سدادة على فمه..لتنام علي صوت اغنية آتية من ناحية الجيران : أتاريني ماسك الهوا بإيدي ..