مجموعة سعودي القانونية

حسن-نافعة

فى يوم ٣٠ يونيو خرج ملايين المصريين إلى الشوارع للمطالبة بسحب الثقة من الدكتور مرسى وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. وفى يوم ٣ يوليو خرج الجيش بقيادة الفريق السيسى ليعلن عزل مرسى، وتعيين رئيس مؤقت للبلاد، وبدء مرحلة انتقالية ثالثة تتضمن صياغة دستور جديد (أو معدل) وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية على أساسه.

 

ومع التسليم بوجود علاقة عضوية، وربما سببية، بين هذين التاريخين، إلا أن أسئلة كثيرة لاتزال معلقة تبحث عن إجابة، بعضها يتعلق بالحاضر، مثل: من يحكم مصر الآن، وإلى أى قوة يستند: قوة الجماهير التى خرجت إلى الشارع، أم قوة الجيش الذى لولا تحركه لما عُزل مرسى؟ وبعضها الآخر يتعلق بالمستقبل، مثل: من سيحكم مصر فى نهاية المرحلة الانتقالية: ممثلو النظام القديم الذى أسقطته ثورة ٢٥ يناير، أم ممثلو نظام الإخوان الذى أسقطته ثورة ٣٠ يونيو، أم ممثلو الثورة الذين لم نعد نعرف من هم وأين نجدهم، أم الجيش الذى يرى البعض أنه لم يعد له بديل فى المرحلة القادمة؟

 

للإجابة عن هذه الأسئلة، أرجو أن تأذنوا لى بتلخيص وطرح اجتهاداتى فى صورة تسلسل منطقى للأفكار، وذلك على النحو التالى:

 

١- لم يكن لدى أغلبية المصريين مانع من تجربة حكم الإخوان عقب ثورة ٢٥ يناير، لكن تغيرا تدريجيا ما لبث أن طرأ على هذا الموقف، وراح يتصاعد بسرعة إلى أن وصل إلى الانحياز لفكرة سحب الثقة من مرسى بعد أقل من عام على حكمه، وذلك لأسباب كثيرة أهمها: أ- تزايد الاقتناع بأن الدكتور مرسى لا يؤمن بالديمقراطية، بدليل إقدامه فى نوفمبر ٢٠١٢ على إصدار إعلان دستورى منح بموجبه لنفسه جميع السلطات، وإصراره على إدارة الدولة كممثل لجماعة الإخوان، وليس لكل المصريين، وعلى تمكين جماعته من الهيمنة المنفردة على كل مقدراتنا. ب- الانكشاف السريع لقدرات الجماعة التى بدت عاجزة عن إدارة الدولة المصرية بطريقة رشيدة. ج- تزايد المخاوف من التأثير السلبى للارتباطات الخارجية للجماعة على متطلبات الأمن الوطنى المصرى، وهو ما بدا جلياً فى «مؤتمر نصرة سوريا». أذكر أننى كتبت فى اليوم التالى واصفا هذا المؤتمر بأن «مصر التى شاهدتها هناك لم تكن مصر التى أعرفها أو مصر التى أتمناها».

 

٢- لم يكن الخروج المكثف للجماهير المصرية يوم ٣٠ يونيو، بصرف النظر عن جدل الأرقام، قادراً وحده على إسقاط مرسى أو إقناعه بالموافقة على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، لأن الرئيس وجماعته يعيشان حالة من العناد والإنكار وعدم القدرة على إدراك الواقع، غير أنها بدت مصممة فى الوقت نفسه على مطالبها، حتى ولو تطلب الأمر البقاء فى الشوارع والميادين لأجل غير مسمى. ولأن أنصار مرسى كانوا محتشدين بدورهم فى الشوارع والميادين، فقد بدا خطر الاحتكاك بين الفريقين، بل واحتمال تطوره إلى حرب أهلية، قائما، وهو ما دفع الجيش المصرى للتحرك بسرعة.

 

٣- لم يتوقع أحد أن يأتى تحرك الجيش بمثل هذه السرعة والحسم، لكن الشىء المؤكد أن جماهير ٣٠ يونيو التى كانت محتشدة فى الشوارع رحبت به ورأت فيه عملا وطنيا من الطراز الأول. ورغم كل ما قيل عن دور الجيش و«الدولة العميقة» فى تحريك الجماهير التى خرجت فى ٣٠ يونيو، كجزء من «المخطط الانقلابى»، إلا أن هذا الادعاء لا يستند فى تقديرى إلى أى دلائل. والواقع أنه ما كان للجيش المصرى أن يتحرك على هذا النحو الحاسم وفى التوقيت المناسب تماما، لولا توافر قيادة وطنية واعية وشجاعة ومدركة تماما لطبيعة المخاطر المحدقة بمصر فى تلك اللحظة الفارقة من تاريخها، وهو ما يفسر سر الشعبية الطاغية التى حظى بها السيسى بعد ٣ يوليو، واستجابة الجماهير الهائلة لدعوته للخروج ولتفويضه بمكافحة الإرهاب.

 

٤- لم يكن للجماهير التى خرجت فى ٣٠ يونيو، شأنها فى ذلك شأن الجماهير التى خرجت من قبل فى ٢٥ يناير، قيادة سياسية موحدة أو ممثلون معتمدون جاهزون لتسلم السلطة. ولأن مرسى لم يقبل التنحى طواعية، مثلما فعل مبارك من قبل، فقد بدا السيسى ممسكا ليس فقط بسلطة الأمر الواقع وإنما بتفويض شعبى يؤهله لقيادة الثورة. صحيح أن التصور العام لخارطة الطريق التى أعلنها لم يكن من بنات أفكاره وإنما حصيلة مناقشات جرت فى اجتماعات دعت إليها حركة تمرد قبل ٣٠ يونيو وأتيح لى أن أحضر جانبا منها، وصحيح أيضا أن الدكتور البرادعى استدعى بعد ٣ يوليو وأصبح طرفا فى المشاورات التى جرت لتشكيل الحكومة، لكن ذلك لم يكن يعنى، بأى حال من الأحوال، وجود شركاء فى السلطة، بدليل أن استقالة البرادعى بعد ذلك من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية لم يكن لها أى تأثير على مسار خارطة الطريق.

 

٥- لا تستطيع حكومة الببلاوى أن تدعى أنها الممثل الشرعى لثورة ٣٠ يونيو أو لأغلبية القوى السياسية والاجتماعية التى فجرتها. فالواقع أن هذه الحكومة وُلدت من رحم مساومات اختلط فيها الموضوعى بالذاتى، والحزبى بالشللى، والأيديولوجى بالديماجوجى. ورغم حرص السيسى على أن يظل فى خلفية المشهد تاركا صدارته لرأسى السلطة التنفيذية، ممثلة فى رئيس الدولة ورئيس الحكومة، إلا أنه كان ومازال هو المسؤول الأول والأخير عن نجاح أو فشل إدارة المرحلة الانتقالية الراهنة.

 

٦- لم تعترف جماعة الإخوان بالأمر الواقع الجديد، رغم خسارتها معركة الاعتصامات فى رابعة والنهضة، والتى شكلت فصلا مأساويا سيظل يدمى قلوب المصريين لفترة طويلة قادمة، ولاتزال تطالب بعودة ثلاثية: للرئيس المعزول، ولمجلس الشورى المنحل، وللدستور المعطل. ورغم إدراكها عدم واقعية هذه المطالب، إلا أن الجماعة تعتقد أنها لاتزال تملك القدرة على شن حرب استنزاف طويلة الأمد ضد سلطة الأمر الواقع لإجبارها على تقديم تنازلات جوهرية تتيح لها، على الأقل، إمكانية العودة بقوة إلى المشهد السياسى عبر الانتخابات القادمة. ولأن الحكومة الحالية ليس لديها ما تقدمه للجماعة سوى قبول غير مشروط بخارطة الطريق أو الفناء، تعتقد الجماعة أنه ليس أمامها من بديل آخر سوى قبول التحدى وخوض المواجهة حتى النهاية.

 

٧- تتبنى الجماعة حاليا استراتيجية تستهدف استنزاف النظام الحاكم وإفشال خارطة الطريق، وذلك على مرحلتين، الأولى: تعتمد على تحريك الشارع ودفعه لممارسة التظاهر وتحدى حظر التجوال بشكل يومى وتصعيد الحراك الشعبى إلى أن يصل إلى حالة «العصيان المدنى»، والثانية: تعتمد على التحرك من خلال «الصندوق» لإفشال خارطة الطريق، أولاً فى معركة الاستفتاء على الدستور ثم فى معركتى الانتخابات البرلمانية والرئاسية. إذ يكفى أن تنجح الجماعة والقوى المتحالفة معها فى إقناع أعداد كبيرة من الناخبين بعدم التوجه إلى صناديق الاقتراع أو التصويت بـ«لا» على مشروع الدستور الجديد، لتحقيق النصر فى هذه المعركة. ذلك أن عدم حصول مشروع الدستور الجديد على نسبة تزيد على ٥٠% من أصوات الناخبين المسجلين على القوائم، أو على أكثر من ثلثى المشاركين فى الاقتراع، سيبدو كأنه هزيمة لنظام يسعى لوضع دستور على مقاسه هو وليس على مقاس الشعب. أما بالنسبة للانتخابات البرلمانية والرئاسية، فربما يكون من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت الجماعة ستخوضها أم لا، وماهية التكتيكات التى ستلجأ إليها إذا ما قررت خوضها. ويبدو أن الجماعة تعتقد أن بوسعها إحراج النظام الحاكم فى الحالتين، فالمقاطعة قد تنجح فى التشكيك فى مصداقية الانتخابات، أما المشاركة فقد تمكنها من الحصول على الثلث المعطل بالتعاون مع حلفائها، وحينئذ تصبح فى وضع قد يمكنها من شل حرية حركة السلطتين التشريعية والتنفيذية حتى لو لم تتمكن من الدفع بمرشح حليف إلى المقعد الرئاسى.

 

٨- لا توجد لدى «المعسكر الآخر» استراتيجية بديلة تضمن نجاح خارطة الطريق فى إفراز سلطة تشريعية وتنفيذية تعبر عن طموحات الثورة المصرية فى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. فمازال هذا المعسكر منقسما على نفسه وغير قادر على توحيد صفوفه على نحو يضمن له فوزا مريحا فى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة، ويراهن على فاعلية «استراتيجية الإقصاء» التى يعتمدها فى مواجهة الجماعة وحلفائها، وتقوم أجهزة الأمن بتنفيذها بالتعاون مع الجيش. غير أن استراتيجية الإقصاء لا تكفى وحدها لإقامة نظام بديل قادر على الصمود.

 

٩- يبدو أن النظام المصرى يمر فى مرحلة تطوره الراهنة بحالة «فراغ سياسى» يعتقد كثيرون أن الجيش هو الوحيد القادر على ملئها، خصوصا فى ظل الحاجة الماسة إلى تحقيق الانضباط والأمن كشرط أساسى للانطلاق على طريق التنمية والتقدم. القيادات المدنية لاتزال عاجزة حتى الآن عن توحيد صفوف القوى الليبرالية واليسارية والقومية وتشكيل جبهة موحدة قادرة على حسم الانتخابات البرلمانية القادمة لصالحها أو الاتفاق على مرشح بذاته لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة وفق برنامج متفق عليه. وفى ظل حالة الفراغ هذه من الطبيعى أن تتطلع الجماهير المصرية ذات الحس السياسى المرهف إلى الفريق السيسى باعتباره «المنقذ» الوحيد المطروح على الساحة، ومن ثم فليس من المستبعد أن تتزايد الضغوط عليه للقبول بترشيح نفسه فى الانتخابات الرئاسية القادمة. غير أن هذا الحل، بافتراض أن الظروف المستجدة قد تجبر السيسى على قبوله، قد يشكل مخرجا للأزمة على المدى القصير، لكنه قد يتحول إلى عبء على المدى الطويل.

 

فهل تستسلم النخبة المصرية، بجناحيها، لمثل هذه الحلول المؤقتة؟ أظن أنه بات لزاما عليها أن تفكر خارج الصندوق للتوصل إلى حلول مبتكرة. وللتوصل إلى هذه الحلول على الفصائل المنتمية إلى تيار الإسلام السياسى أن تدرك أن العودة بعقارب الساعة إلى الوراء باتت أمرا مستحيلا، ومن ثم فعليها أن تقوم بالمراجعات الفكرية الضرورية لتأكيد التزامها بالقواعد الديمقراطية ولاستعادة الثقة فيها، وعلى الفصائل الأخرى أن تدرك فى الوقت نفسه أن الاستئصال ليس هو الحل ويمهد الطريق لاستبدال الفاشية الدينية بفاشية عسكرية.

 

المصدر : جريدة المصري اليوم

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *