لم يعد الروائي الأمريكي بول أوستر غريبًا على قراء اللغة العربية، بعد ترجمة روايات كثيرة له. وإن لم تلق كتبه غير السردية الحظ نفسه من الترجمة، مثل عيش الكفاف أو اختراع العزلة أو كتابه المدهش والصغير الدفتر الأحمر، فإن سيرته الذاتية الحديثة حكاية الشتاء صدرت ترجمتها العربية، قبل شهور قليلة، عن (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) في بيروت وبترجمة هالة سنّو، حيث يتحدث أوستر إلى ذاته بضمير المخاطب، ربما لكي “تضع جانبًا حكاياتك الخيالية [على حد تعبيره] وتحاول أن تدرس بدقة ذلك الشعور بالعيش داخل هذا الجسد منذ أول يوم من حياتك تعود به ذاكرتك إليك”، فتصير الصفحة البيضاء مرايا لتأمل مشوار الجسد وتحولاته وانتقالاته، صور فوتوغرافية مبعثرة بين الأزمنة والأماكن بلا أي نسق، غير الإخلاص لفوضى الذاكرة وألاعيبها.
“هنا تبدأ الحكاية.. في جسدك.. وهنا أيضًا سينتهي كل شيء”، يظل الجسد مركزًا ومدارًا، تنطلق منه رحلة الكتابة ثم ترجع إليه، من أولى الانطباعات والمشاعر والجروح والأحاسيس، تقلّب الذات بصرها في هذا البيت الحيّ الذي تسكنه، وتشرع في عملية جمع بيانات شبه إحصائية لكل ما مر عليه تقريبًا، وخصوصًا ما أحاط بهذا الجسد من أماكن وأشخاص وما أصابه من انهيارات صحية وأفراح حسيّة.
قد يفتقد قراء أوستر كثيرًا من سماته الأسلوبية في هذا الكتاب، ليس فقط لأن الكتاب سيرة وليس رواية، بل ربما لأنه قرر أن يكتب لنفسه كشفَ حساب شخصيًا تمامًا، أن يتقافز بحرية بين الحالات والذكريات والأزمنة، إلى أن يقرر فجأة أن يكتب قائمة طويلة (أكثر من خمسين صفحة)، بجميع الأماكن التي عاش فيها منذ مولده وحتى لحظة كتابة سيرته هذه، العناوين وطبيعة الأماكن وما أحاط بها من مُلابسات، ثم يفعل هذا حتى مع الحلوى والأطعمة والوجبات التي أحبها في صباه، وقوائم أخرى مطوّلة لأماكن سافر إليها أو أشياء فعلها بيديه، وسترَ ربنا فلم يورد أوستر قائمة بعناوين الكتب التي قرأها خلال حياته، وإلّا لكان مازال يخربش في دفاتره حتى هذه اللحظة. كأنها تعويذة أخيرة لإنقاذ أشياء الذات من الضياع النهائي. كانت الصفحات تنبض بحيوية أصيلة كلما ابتعد عن تلك الإحصاءات والقوائم واقترب من حياته، وعلى الخصوص من شخصيات أثرت فيه، مثل ذلك الجزء المخصص لوفاة أمه وذكرياته الصغيرة معها وتقلبات حياتها، أو حين يسرد مشكلات زواجه الأول ثم قصة حبه بزوجته الثانية وعمق ارتباطه بها. بين الحين والآخر يمكن أن نلمح أوستر، الأنيق واللعوب، بين السطور، لكنه على العموم بدا هشّا مثل مريض في فترة نقاهة، يتعافى بالكتابة ويسلّي نفسه بسرد ذكرياته كيفما اتفق، حتى الإحساس باقتراب النهاية لم يترك بصمة عميقة على الكتاب، وبدا الاحتفاء بالحياة هوسًا بالأعداد والكميات أكثر منه تقديرًا للقيمة وعمق التجارب: “كم مرة غمزت بعينك؟ ما هي عدد الخطوات التي اتخذتها؟ وكم ساعة قضيتها والقلم بيدك؟ كم قبلة تبادلتها مع أخريات؟“.
في موسم شتاء طويل لا تكاد تتوقف فيه الثلوج عن السقوط، يختلي الروائي العجوز بدفاتره، ليلعب مع ذكرياته، فقط ليعترف بأنه صار في شتاء العمر وبأن الحكمة النهائية توجد في مقولة (جوبيرت): “يجب أن يموت المرء وهو محبوب (إن استطاع)”، فلا يخرج في أغلب الصفحات إلا بقوائم مشتريات من سوبر ماركت الحياة الهائل، لولا أن أسعفته مزقٌ من الحياة، مزقٌ حقيقية وساخنة، مسّت أوتاره الخفية بوعيٍ أو بغير وعي، فحوّلت قوائمه وإحصاءاته البيانية إلى كتاب جدير بالقراءة وربما بالنسيان أيضًا.