يحدث بين الحين والآخر، عند مواجهة القصيدة وجهاً لوجه، أن يحار أيٌّ منا. فتجربة قراءة القصيدة قد تحرف الواحد منا عن طريقه، فكرياً أو شعورياً، وهي تنتقل إليه. وما لم تكن القصائد مدعومة من مشاهير، أو مصحوبة بموسيقى، أو منظومة بأيدي أبنائنا، فإنها تحدث فينا أثراً رهيباً، فكل هذه السطور غير مستوية النهايات، بكل تلك الفراغات البيضاء في ما بينها، تبعث فينا الإحساس بجدارتها بمعاملة خاصة بوصفها قطعة من فن جليل، فكأنها تقول لنا: انظر وإياك أن تقترب، وممنوع اللمس.
ولكن ماذا لو أن ذلك الفن الرفيع، أعني فن قراءة الشعر، ليس بالفن الرفيع أصلاً؟ ماذا لو أن مأزق قراءة الشعر يكمن في تصوراتنا حسنة النية سيئة الأثر عن قراءة الشعر؟
إليكم هنا عشرين مقترحاً بسيطاً لإعادة النظر في فعل قراءة القصيدة:
1. تخلّص من فكرة أن قراءة الشعر ستغيِّر حياتك تغييراً دراماتيكياً، فحياتك تتغير باستمرار، وأنت في أغلب الوقت تكون أكثر انشغالاً من أن تنتبه إلى هذا التغير. والقصائد تسألك الانتباه، لا أكثر.
2. عندما تقرأ قصيدة، لا سيما إذا كانت قصيدة غير مكتوبة بهدف الإلقاء الشفهي، فاقرأها بصوت مرتفع. وانس تماماً ما قيل لك في المدرسة الابتدائية عن ضرورة القراءة الصامتة لئلا تزعج أقرانك. ستلتقط أذنك أكثر مما تسمح به رأسك. أعني أن الأذن ستملي على العقل ما ينبغي أن يفكر فيه.
3. حاولْ أن تقابل القصيدة بشروطها لا بشروطك. وإذا لزمك أن “تقيم علاقة” مع قصيدة لتفهمها، فأنت لا تقرأ القصيدة قراءتها الحقة. بعبارة أخرى، لا تحاول أن تهيِّئ القصيدة لتناسب عالمك. بل حاول أن ترى العالم الذي تخلقه القصيدة. وحينئذ، إذا حالفك الحظ، سوف يعينك عالمها على رؤية عالمك رؤية جديدة.
4. وعيت بالأمر أم غفلت عنه، أنت دائماً تبحث عن مبرّر للتوقف عن قراءة قصيدة والانتقال إلى قصيدة أخرى، أو إلى شيء مختلف تماماً. قاوم هذه الرغبة ما أمكنك. فكّر في الأمر تفكير بوذي في بعوضة مزعجة. قد تضايقك البعوضة، شأن القصيدة، ولكنها لن تقتلك إذا أنت اجترأت على احتمالها بضع لحظات أخر.
5. سيقول لك الناس إن هناك نوعين من القصائد، “القصائد السهلة” التي يسهل معناها وفحواها على الوصول إلى القارئ، و”القصائد الصعبة” التي يصعب معناها وفحواها على الوصول إلى القارئ. لك أنت أن تقرّر أي جهد تود أن تبذله.
6. إذا صادفتك كلمة لا تعرف معناها، فاستعن بالقاموس، أو مُت منتظراً.
7. لا يمكن شرح قصيدة. بل إن أعظم ما في القصيدة هو أنها عصية على الشرح: غامضة. غموض القصيدة يقع في مركز ما يجعل الإنسان إنساناً. نحن بالفعل لا نعرف ما الذي سيحدث في اللحظة التالية، ولكن علينا أن نتصرف كما لو كنا نعلم.
8. ليس في القصيدة معنى خفي، بل “معان” لم تدرك بعد أنها أمام عينيك. والوقوع على الدقائق يستوجب الممارسة. وقراءة الشعر دربة شأنها شأن أي شيء آخر، وإنك تتعلم القواعد منها مثلما تتعلمها مما سواها: من قيادة السيارة أو طهو الكعكة.
9. برغم صعوبة الأمر، افصل بين الشاعرة وبين الناطقة بالقصيدة. فالشاعرة دائماً ترتدي قناعاً (شخصية) وإن حاولَت ألا ترتدي قناعاً، ومن ثم فمساواتك بين الشاعرة والناطقة بالقصيدة تنكر على القصيدة قوتها الخيالية الكامنة في ما وراء حياة الشاعرة.
10. عندما تصادف شيئاً يبدو “تهكمياً”، تأكد أنه سخرية الناطق بالقصيدة لا موقفك أنت.
11. “القراءة من أجل المتعة” تعني ضمنياً أن هناك “القراءة من غير أجل المتعة” أو “القراءة من أجل الألم”. القراءة كلها ينبغي أن تكون من أجل المتعة: شأن الجنس، يحقق المتعة عظُمت أم هانت، لكن المتعة في نهاية المطاف ليست الغاية النهائية.
12. قد تبدو القصيدة مثل خزانة موصدة تخفي بداخلها ما تخفيه. بعبارة أخرى: لا بأس إن لم تفهم قصيدة. في بعض الأحيان قد يستوجب أدنى درجات الفهم دزينة من القراءات. وقد لا يتحقق الفهم في بعض الأحيان. الأمر ككونك على قيد الحياة: حيرة وورطة دائمان في أغلب الحالات.
13. عليك بالهوامش. القراءة بدون الكتابة في الهوامش كالمشي بدون تحريك الذراعين. يمكنك أن تمارسه وتصل إلى غايتك، ولكن سيبدو دائماً وكأنك مفتقدٌ شيئاً هو من جوهر المشي.
14. لا شيء يضيع فعلاً في قراءة القصيدة. فإذا لم تفهم قصيدة، فما فقدت غير قليل من الوقت أو الطاقة. على العكس، ثمة الكثير الذي يحتمل أن تكسبه: فكرة جديدة، أو فكرة قديمة ترى رؤية جديدة، أو حتى لحظة تنفصل عن بنيان لحظات حياتك.
15. الشعر يقوم على النمط والتنويع، حتى الشعر غير البيتي، غير السردي، المُناهض للشعرية. بفهمك للأنماط وتنويعات الأنماط، سيحاول ذهنك أن يقيم نظاماً من الفوضى البادية. لا علاقة بين “الإكسيليفون” و”الضفدع” و”العدالة”، ومع ذلك يقوم عقلك فوراً بترتيب الكلمات بحيث تنضبط أمام الإدراك.
16. مع تحسّن قدرتك على قراءة القصيدة، تتحسّن قدرتك على قراءة الأخبار، والروايات، والمذكرات القانونية، والإعلانات وكل شيء. كان لستاربكس قبل سنوات إعلان يقول: “الأصدقاء ندف من الثلج… لكلٍّ فراداته”. ما أصدق هذا. لكن، أليس الثلج أيضاً سريع الزوال، بارداً؟ فلنأمل ألا يكون أصدقاؤنا كذلك.
17. قراءة الشعر لا تتعلق فقط بقراءة الشعر. فأسلوب الشعر وتراكيبه ومعجمه قادرة جميعاً على ترقية وعيك بالعالم وما فيه من أشياء قد لا تكون لها علاقة مباشرة بالكلمات. الفستان، المبنى، سماء الليل ـ كل هذه أشياء ترتبط بإدراك النمط والقدرة على الاستقراء.
18. أفضل طريقة لقراءة قصيدة هي أن تكون شاباً، ذكياً، مخموراً بعض الشيء. غير أنه ما من شك في أن قراءة القصائد في الهرم تولِّد في النفس رغبة وحسرة: ليتني قرأت مزيداً من الشعر في شبابي.
19. يوماً ما، حينما يبدو أن جميع ممتلكاتك المادية قد استنفدت أغراضها ومنفعتها ولم تعد غير عقبات في طريقها إلى المرحاض، ستبقى للقصائد قيمتها. تبقى لك مساحات تستوعب المساحات. تصبح قصيدة في ذاكرتك، أو بيت أو اثنان، بعضاً من جوهرة، وبعضاً من مهارة إنقاذ الحياة، كأن تعرف كيف تسيطر على قاطع طريق، أو كيف تقطع ثمرة مانجو دون أن تقطع أصابعك.
20. قراءة قصيدة جيدة لا تعطيك موضوعاً تتكلم فيه، بل هي تسكتك. قراءتك قصيدة جيدة تدفعك إلى الأمام. تعدُّك للصمت الأكبر الذي يشغلنا كلنا: تعدُّك للموت.
* مارك ياكيش Mark Yakich، شاعر من الولايات المتحدة