الرسالة التى أرادها المخرج من فيلم «فورست جامب»، ليست بالضبط هى التى وصلتنى. لسنا، كما صوّرت الكاميرا فى بداية الفيلم ونهايته، مجرد ريشة تتطاير فى الهواء تُحرّكها الريح فى حركة عشوائية، تتسكع على أسطح السيارات، ثم تكنسها الريح تحت الأقدام. ثم تُطيّرها نسمة شقية لتعود بها إلى الجو، تتأرجح يمينا ويسارا، وشمالا وجنوبا، فى رحلة لا نهائية لها. أقدار عشوائية تدفعنا فى أى اتجاه.
لكن هذا كله غير صحيح. ها نحن مع فورست جامب، الذى قام بدوره المبدع «توم هانكز»، الطفل الغبى الذى يتعامل بالفطرة مع الجميع. هكذا بدأ فورست جامب طفلا دون المستوى المعتاد فى الذكاء. بل ومُعوّقا أيضا. ظهره المنحنى ألزمه بارتداء حذاء لتقويم الأعوجاج. من الطبيعى أن يُضطهد طفل كهذا فى عالم الأطفال. لكن أمه استوعبت ظروفه، وبدأت تبث فى نفسه الثقة. وبرغم معدل ذكائه المنخفض، فإنها أصرت على إلحاقه بالمدرسة، وهكذا بدأت رحلة فورست جامب فى الحياة.
فى عالم المدرسة كانت «جينى» زميلته فى الصف هى ملاكه الحارس. لذلك ظل متعلقا بها حتى آخر العمر، يحوطها بحبه وعنايته، هى أيضا أحبته حتى لو كان مجرد شخص محدود الذكاء.
فى رحلة الحياة سمع «فورست جامب» وصف الغباء يتردد عنه آلاف المرات. كل من يتحدث معه ولو قليلا يرفع حاجب السخرية ويسأله متهكما: «هل أنت غبى؟». من المدهش أن هذا الطفل الغبى حقق نجاحا مذهلا، الطفل شبه المعوق قد صار بطلا فى العدو! واستطاع الالتحاق بالجامعة بسبب تفوقه فى مبارات الكرة الأمريكية التى يسابق فيها الرياح.
فيما بعد سيلتحق بالجيش ويذهب إلى فيتنام، وبفضل ذكائه المحدود سيطيع الأوامر، وبفعل نبله واستقامته سيغامر بحياته ويسارع إلى إنقاذ الجنود. وهكذا يصبح بطلا قوميا يصافح الرئيس. وحين يبر بوعد لزميله فى السلاح، المقتول فى حرب فيتنام، بالاشتراك فى تجارة الجمبرى يتحول إلى مليونير. وهكذا يحصل «الغبى المحلى» على الشهرة والمال. هذا النجاح يفسره الفيلم بأننا ريشة فى الهواء، تطيّرها الرياح كيف تشاء. ورياح أقدار فورست جاملته كثيرا ووجهته نحو المجد والمال.
بالنسبة لى فإننى أرتاب كثيرا فى هذا التفسير المبسط. الحقيقة أن فورست جامب قد واجه الحياة بكثير من الاستقامة والخلق القويم. يفسرون ذلك بغبائه المفرط! الإنسان المثالى عالى الخلق لا يجدون تفسيرا لاستقامته سوى البلاهة.
نخرج إلى الدنيا فيقولون لنا إن علينا أن نتسلح بالخبث والتربص والحذر والشك. يؤكدون لنا أن من يحمل هذه الصفات يكون أقرب للنجاح. ولكننا ننسى، ونحن نسمع هذه الوصفة، أن الكون أعمق بكثير مما نتخيل، وأن شفرته السرية لا تبوح برموزها إلا لكل قلب نقى. لقد بُنى الكون على الحق، ولم يُبن على الباطل، والدنيا جزء من الكون، والإنسان بطل هذه الدنيا، ومن الطبيعى أن تنسجم حركة الكون الخفية مع الإنسان الطيب المستقيم.
لا يفعل الشر ولماذا يفعله؟ لا يكذب لأنه لا يرى مبررا للكذب. لا يحقد لأنه يتمنى الخير لكل إنسان. ويتبرع بالمال لأن أمه أفهمته أن المال بعد حد معين لا يفيد الإنسان! يُسمّون هذه الفضائل ذكاء منخفضا، فلو كانت الغفلة عن شرور الكون غباء فيا مرحبا بالغباء!.
المصدر المصري اليوم