قرأت ككل المصريين تدوينة الفنان التشكيلى هانى المصرى التى انتشرت فى أرجاء فيس بوك، ثم جعلها بلال فضل موضوعا لمقال كامل. التدوينة مرعبة وتبعث الاكتئاب فى النفس بشدة.. الحقيقة أن مصر بلد مثقوب تتسرب منه الكنوز والثروات بلا توقف، والمعجزة الحقيقية فى مصر هى أن هناك شيئا ما باقيا…
لو لم تكن قرأت التدوينة التى كتبها الفنان بقطرات دم يسيل من فؤاده، فأنا ألخصها لك فى كلمات. الفنان كان يهوى الفن الإسلامى جدا وكان يزور متحف الفن الإسلامى فى باب الخلق ليجد كنزا من التحف الإسلامية. كمية مقتنيات لا يمكن تصديق أنها حقيقية وأنها فى مكان واحد. ثم سافر إلى امريكا أعواما طويلة، وبعدها عاد فقرر أن يعود لمتحفه الحبيب.. لم يجد أى شيء تقريبا كأن الجراد أتى على المتحف.. جدران كاملة كانت مغطاة بالسيوف وفجأة صارت عارية تماما. أين ذهب هذا كله؟.. ثم اتصلت به صديقة تعمل فى بلد عربى خليجى، وقالت إنها ستزور المتحف الإسلامى هناك. أرسلت له صورا فأدرك أن أسوأ كوابيسه تحقق.. معظم القطع التى اختفت من متحفنا معروضة هناك. دعك طبعا من القطع التى صارت فى مجموعات خاصة ولن نراها أبدا. يقول الفنان: «اللى حكمونا اشتركوا فى المؤامرة دى لمصالحهم الشخصية وحساباتهم السرية فى البنوك السويسرية. هاتوا لى بقى حسنى وسوزان وزاهى وفاروق والشاطر والعياط وبديع وكل واحد نكتشف إنه مسؤول عن الجرايم دى… ورصوا لهم المشانق فى ميدان التحرير.. بلاش عك».
طبعا مقال مؤسف ترك طعما كالعلقم فى فم كل من قرأه..
إن نزف الآثار من مصر قديم جدا.. لو لم تكن قد قرأت كتاب (نهب آثار وادى النيل ودور لصوص المقابر) الذى كتبه بريان م. فاجان وترجمه د. أحمد زهير أمين، فعليك أن تجده وتقرأه لتصاب بالذعر من كم التبديد المرعب.. سوف تكتشف أن أهل النوبة كانوا يطهون طعامهم على المومياوات المحترقة لأنها أرخص وأكثر وفرة من الخشب وتعطى لهبا أفضل. كما أن المصريين كانوا يعتبرون لحم المومياوات مصدرا ممتازا للقطران، وجاء مستثمرون أجانب كثيرون قاموا بتصدير المومياوات لأوروبا حتى بلغ ثمن رطل المومياء 8 شلنات فى اسكتلندا عام 1612. ثم جاء المهرب الأعظم جيوفانى بلزونى الإيطالى الأفاق.. الذى خدع كل حاكم ومسؤول فى مصر وأقنعه أنه عالم آثار عظيم، وهو مجرد مهرج فى سيرك. عندما كان بوسعك أن تدخل الهرم الأكبر كما كان فى مراهقتى، كنت ترى توقيعه بحروف كبيرة فى غرفة الدفن.
لقد استطاع بلزونى أن يسرق نسبة هائلة من آثار مصر على سبيل التأميم. الكتاب يريك قائمة مخيفة من الآثار التى قام بسرقتها حتى انك تتساءل عما إذا بقى شيء فى مصر أصلا. هذه معلومات مرعبة، لكن الكتاب ينتهى بعبارة جديرة بالتأمل: «ليس من السهل أن توجه اللوم لأمين متحف أو جامع آثار فى عهد ولى منذ 150 عاما. لقد كانوا حيثما تولوا لا يرون إلا معابد تحطم وتماثيل تكسر ومقابر تنهب. لم يكن الأمان متوافرا فى مصر، لكن إذا وقعت بردية فى يد المتحف البريطانى فسوف تنجو من التلف تحت رعاية أعظم متاحف العالم. أى مومياء تعرض فى المتحف البريطانى هى فى وضع افضل بكثير من نظيرتها المعرضة للنهب فى مقابر طيبة.. لدرجة أن بعض الناس تساءلوا: وما حاجة المصريين إلى ماضيهم؟». هذه نقطة مهمة جدا.. المصريون لم يبالوا قط بآثارهم إلا كوسيلة للتجارة، وقد استخدموا معبد السيرابيوم كمصدر لرخام الأرضيات، فلماذا يهتم الغربى بها أكثر منهم؟.. وهذا من جديد يستعيد فكرة أن البلاد العربية كلها مزرعة للغرب يجنى منها الخيرات لأن اهلها لا يجيدون الزراعة، او بالتعبير العامى خيراتنا (قتة محلولة).
يحكى هيكل فى كتابه (خريف الغضب) عن الطريقة العجيبة التى كان السادات يتعامل بها مع آثار مصر، حيث كان يهدى من يشاء قطعا ثمينة من آثارنا. هذا التقليد كان موجودا من قبل، لكن كان لابد أن تكون القطع مكررة وأن تكون القطع مقدمة لهيئات رسمية. لكن فى عهد السادات تمددت القائمة لتصير هدايا يقدمها السادات لأصدقائه الشخصيين، ومنها هدايا لشاه إيران والشهبانو وهنرى كسينجر وديستان وملكة اسبانيا.. الخ.. ومعظم هذه الآثار كانت بناء على مكالمة هاتفية لهيئة الآثار. القائمة تشمل عدة صفحات من كتاب هيكل وأظن أن ثمن هذه التحف عدة مليارات.
الحقيقة أن سرقة الآثار او تسربها من يد من لا يفهم قيمتها قديمة جدا، ولدينا مثال (الجين ماربلز).. هذا الأثر الإغريقى المذهل الذى كان جزءا من معبد البارثينون. السفير البريطانى فى الأستانة توماس بروس عرف قيمة هذا الأثر الثمين بينما لم يجد العثمانيون – الذين احتلوا اليونان – أى قيمة له. بالواقع كانوا يحبون تحطيم المعابد الإغريقية وسحقها ليصنعوا منها البلاط. وقد كانوا يستعملون هذا الأثر بالذات كحصن حربى لذا تلقى الكثير من دانات القنابل. حصل بروس على تصريح يسمح له بنقل هذه المنحوتات من اليونان إلى بريطانيا، وهى اليوم درة المتحف البريطانى. السؤال الأخلاقى الوحيد هو: هل تظل هذه التحف فى بريطانيا أم تنقل لأثينا؟. بالطبع يرى اليونانيون أن العثمانيين باعوا ما لا يملكون لمن لا يستحق. هناك قصة مماثلة بصدد تمثال فينوس ميلو الشهير مقطوع الذراعين.
نحن نعرف جيدا أن هناك آثارا كثيرة سرقت من المتحف المصرى بالذات يوم جمعة الغضب عندما هاجم البلطجية المتحف، برغم أن زاهى حواس أنكر ذلك ثم أكده ثم أنكره.. اليوم نعرف أن عددا مهولا من القطع فقد من متحف ملوى.. استطاع رجال الشرطة استرداد 411 قطعة فقط من 1040 قطعة مفقودة..
منذ أعوام طالب بعض الحمقى ببيع آثار مصر لسداد ديونها، وقد رد عليهم د. جلال امين بمقال قاس فعلا، ربما انشره كاملا فيما بعد لأذكرك به. اليوم يحدث هذا من جديد بالمجان.. نحن لا نعرف اين ذهبت المليارات.. لم تسدد ديون مصر ولكن دخلت مئات الجيوب.
مصر مثقوبة تفرغ ما فيها من خير بلا توقف، ومن الغريب أنها لم تسقط وأنها ما زالت تحاول الوقوف على قدميها…
بالفعل يخطر لى أحيانا أنه ما دام لا أمل فى أن نصون آثارنا ونحميها ونعرف قيمتها، وما دام الحل ليس فى فى يدك فى أى لحظة، وما دام لا أحد يحرص على هذا البلد المنهك البائس، فلربما كان الأفضل لهذه التحف أن تُسرق، وتوضع فى متاحف محترمة من اجل الحفاظ على الحضارة الإنسانية. لو لم تسرق بريطانيا إلجين ماربلز لصار رخاما فى أرضية أمير عثمانى ولما سمع عنه أحد. لربما صار رأس نفرتيتى رائع الجمال موديلا فى محل كوافير، ولربما استعملوا حجر رشيد كرخامة مطبخ يقطعون عليها اللحم..
هذا منطق غريب. يشبه منطق الأم التى تذبح ابنتها حتى لا يغتصبها الأوغاد. لكن الحقيقة هى أننا تعبنا جدا.. فى كل يوم ندرك انه لا أحد ممن تولوا أمر هذا البلد يحبه على الإطلاق…
المصدر: التحرير