-“يجب ألا تحرجني أمام الملأ فحتما سأكون لقمة سائغة في أفواه الساخرين إن سقطت على الركح في حفل تبثه أغلب الفضائيات التلفزية العربية انتشارا وتحضره شخصيات عظيمة لم يخطر لي يوما أني قد أحظى بفرصة أن أكون بينها وكان أن حصد تلك الفرصة تشبثي بأكثر أحلامي جموحا و إصراري على النجاح.. لا تفسد فرحتي و احتفائي به أرجوك..”
تمتمت متوسلة وهي تمسك الحذاء بين يديها ثم تعيده إلى مكانه بعناية فائقة.. فجأة، انتفضت و راحت تغدو مسرعة في أرجاء الغرفة ، تبحث بين أغراضها الوفيرة، في الخزانة، فوق المنضدة، تحت السرير، تبحث في كلّ مكان، التوتر يجتر ملامح وجهها الطفولي وعبثا تحاول أن تتذكر أين وضعت تلك الورقة الصفراء الصغيرة التي دونت فيها خطابا يليق بما قد يقال في المحافل الدولية من عبارات شكر و امتنان لله، للقائمين على هذا الحدث، لفرصة جعلتها تمتطي بساط طموحها ولذاتها التي ناضلت طويلا لتنقش ببراثن صبرها تاريخ مجدها على صخور صعوبات هذه الحياة الزاخرة بالمفاجآت..
جلست على حافة السرير تندب حظها العاثر، محاولة استرجاع كلّ مجريات رحلتها إلى هذه المدينة الساحرة إذ تستحيل إعادة صياغة خطاب شبيه بذلك الذي يجب أن يترك انطباعا طيبا في نفوس حضور، قد تبنى بينهم جسورا من العلاقات الإنسانية التي قد يتمخض عنها بلوغ مآرب شتى، في حين تشل تفكيرها جيوش التوتر و الخوف..
بعد مدّة دارت فيها حروبا من المخاوف و الخيالات المقيتة في مخيلتها.. ضربت بكفها على جبهتها وفرت منها صرخة ذعر، “لابدّ أنها بقيت بين صفحات جدارية محمود درويش”..
ارتسمت على جدار ذاكرتها صورة ذلك الكهل الذي شاركها رحلتها الجوية.. رأت سعادة لا متناهية في عينيه و لاحظت الامتنان الذي نضح به وجهه حين أعطته الجدارية بعد أن تبين لها أنه يكن عشقا دفينا للشعر.. لم تكن تحبّ التفريط في كتبها لكنّها أصبحت حريصة ألاّ تتوقف الكتب التي تلهمها عندها فلا شيء أحبّ إلى نفسها من أن تُهدى كتابا.. جعلتها لذّة العطاء تستسلم للأمر الواقع وتقرر أن ترتجل ليكون الخطاب أكثر صدقا، عفوية وتأثيرا في النفوس..
الساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل.. لا رغبة لها في النوم لكن عليها أن تنهل قسطا من الراحة يكسبها طاقة تتوهج بها خلال يومها الموعود.. أعادت ترتيب كلّ ما في الغرفة كما يجب أن يكون و وضعت كل شيء في مكانه الأنسب.. سرعان ما خارت قواها فتسللت إلى السرير مستسلمة لما قد يحمله إليها المنام حالمة بيوم قد يكون من أكثر أيام حياتها استثنائية…
شيء ثقيل يجثم على صدرها، مخيلتها تعج بآلاف المشاهد الهجينة، ورود حمراء مجففة على صفحات الروايات ، وجه يارا الباسم يطل من وراء القضبان، كم تبدو فاتنة في ثوبها الأبيض الملطخ ببشاعة الأسر، رجل يحاول الحفاظ على شموخ امرأة لبت روحها نداء الحرية لتشق صرخات القهر صدور المستضعفين ، القفص الفولاذي الكبير ينصهر وسط السعير.. صدور عارية تطالب بالحرية… زهور تخنقها جذورها..
تلك الأسئلة التي عادة ما تداهمها بعشوائية على شاشة الحاسوب تنخر ذهنها..كيف يعيش إخواننا المسلمون في بورما؟.. حقيقة لا ينتابها الفضول لمعرفة ذلك فقد لا تكون أفضل حالا منهم لأنّ الإحساس بالعجز و بأنانية التمتع بالرفاهية في حين تحتل مسامعها صرخة مكتومة لأطفال يتألمون جوعا وبردا وحرمانا، يلوك إنسانيتها التي تقمعها بتعلة أن لا حول لها ولا قوة..
هل تبحثين عن رجل مسلم؟ .. تتساءل لماذا قد يجدر بها أن تفعل؟.. تحاول أن تتنزه عن اللإجابة عن ذلك السؤال المقيت محاولة معرفة طريقة إعداد الكريب بنكهة الشكولاتة.. قد يجعلها ذلك أكثر سعادة ، واقعية و أقل عرضة للاكتئاب.. كثيرا ما كانت تهرب من تلك الأسئلة لتتفقد بريدها الالكتروني مرة كل خمس دقائق، تنتظر شيئا لا يأتي … قد تكون أصيبت بالذهان فهي ترى كلّ تلك المشاهد تتعاقب بصورة متواترة رتيبة أمامها .. عبثا تحاول فتح عينيها .. عليها أن تفيق من هذا الكابوس البشع بسرعة لكن قبل ذلك يجب أن تكتب .. يجب أن تبلغ رسالة ذلك الذي أصبح يستوطن اللاوجود..
تشعر بالخدر في أطرافها، تتململ، تتحرك بصعوبة، تتزاحم الأفكار في ذهنها، تنبئها باستحالة صياغتها في وقت لاحق.. يجب أن تسكبها على الورق الآن تماما كما هي خالية من الرياء وجمالية الاستعارات التي تزين قبح الحقيقة..
تتسائل إن كانت جديرة بأن تكون رسولا لذلك الرجل الذي رحل كرها، و هي التي كانت تتعمد ألاّ تخوض في المواضيع الحقوقية و تفضل أن تعيش في الظلّ دائما..
قد تكون تهذي من تأثير الأرق .. تحاول جاهدة أن تفتح عينيها لكن هيهات.. كيف لها أن تقوم بهذه المهمة الشاقة.. آه.. تلك الرسالة… إنها عبء يثقل كاهلها..
“أثر الفراشة لا يرى..
أثر الفراشة لا يزول..
هو جاذبية غامض يستدرج المعنى
و يرحل حين يتضح السبيل..”
يقتحم صوت ريم البنا الصمت الذي يلف العدم فتشعر بخفة تلك الفراشة و كأنها تحررت من جسدها المتحجر ، جذلى تدور حول نفسها بحركات رشيقة، تتباهى بروعة ألوانها الصارخة، بجانحين من نور يجهر الأعين..
فجأة، شعرت كأنها تهوي من علو شاهق…. أصيبت بالهلع.. كيف تجردت من بشاعة أفكارها القاتمة، من أنانيتها، خطاياها و خيباتها ؟ أين قد تكون أضاعت خيباتها العزيزة ؟ وكيف لها أن تشعر بكينونتها دونها؟.. لا بدّ أنها واهمة .. لا شيء يلف الفضاء سوى البياض.. الكلمات تثور في دمها ثمّ تتجلى أمام عينيها بوضوح مبعثرة، مكثفة، سيلا من الحروف، علامات الاستفهام، نقاط، فواصل، بعضها يشكل سطورا مستقيمة يتعذر عليها تبين معانيها و أخرى تتمايل، تقترب، تبتعد، تزحف ببطء، تتكاثر بعشوائية، تغيظها، وتهاجمها بغتة مثل جيوش تخوض حربا حامية الوطيس ..
متماسكة، قوية تلتف حول عنقها، تعذبها بوحشية، توخزها، تكاد تخنقنها، عبثا تحاول الهروب والاحتماء منها.. لا ممحاة في هذا المكان و لا يد لها تمكنها من التقاطها ، عارية من قوتها ، مسلوبة الإرادة، متحجرة الجسد، كائن ضعيف يواجه حتفه، يرتقب هلاكه باستسلام فلا سبيل له للنجاة ..
سعيرهم يتأجج في صدرها.. وجوههم المتهللة بالنصر تلوك فمها، قسوتهم تقتات من ضعفها، هالة من السخط و العجز تعتريها و تحجب إحساسها بالألم.. تراقبه بجلادة، تتأمل تعابير وجهه المستسلم لمصير محتوم.. قد تحن النار على الطين لكن قلوبهم لا تحن، رسالته تجتاح مخيلتها مجددا غير أنها لم تتمكن من تدوينها في ذهنها ..
الظلام يجهض نور الجحيم..الحرارة تلفح جلدها..تزيح عنها الغطاء..تمد يدها الى الساعة على المنضدة.. لم يعد أمامها المتسع من الوقت لتجهز نفسها بتروي وفق الخطة التي وضعتها الليلة الماضية.. حين ألقت نظرة على المرآة، هالها ما رأت، حسبت أنها لم تفق بعد من ذلك الكابوس، أغمضت عينيها ثم فتحتهما مجددا لكن الصورة المنعكسة على المرآة أمامها لم تتغير.. وجهها العابس المتجهم وراء قضبان القفص الفولاذي المقيت..
ــــــــــــــــــــــــــ
أمينة الزّاوي – قاصة – تونس