أثار مشروع قانون «تنظيم الحق فى الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية فى الأماكن العامة» المقدم من حكومة الدكتور حازم الببلاوى حالة واسعة من الجدل السياسى والمجتمعى، وتحول إلى مادة إضافية لمزايدة الإخوان المسلمين وحلفائهم من المجموعات والجماعات الإسلامية الصغيرة على نظام الحكم الانتقالى فى مصر. ولعل الأهم كثيراً من مزايدات الإخوان وحلفائهم واستغلالهم لهذا المشروع هو ما جاء به من سلبيات وعورات بدت لعديد من الحريصين على التطور الديمقراطى فى مصر بمثابة مخاطر حقيقية على ما تطلع إليه المصريون منذ ثورتهم الأولى فى ٢٥ يناير ٢٠١١ من استكمال تمتعهم بحرياتهم الأساسية والتى دفعوا من أجلها أثماناً فادحة.
والسؤال الأولى الذى يجب طرحه قبل مناقشة تفاصيل هذا المشروع، وما يجب أن يكون عليه القانون عند صدوره من تلبية لمطالب وآمال الشعب المصرى، وملاءمة مع الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، هو سؤال مزدوج: هل نحن أولا بحاجة لقانون لتنظيم حق الاجتماع والاحتجاج والتظاهر السلمى، أم نتركه مطلقا بدون تنظيم قانونى؟ وإذا كانت إجابة هذا السؤال بنعم، فالسؤال التالى هو: هل اللحظة الحالية هى الأكثر مناسبة لإصدار القانون فى قلب المرحلة الانتقالية، أم من الأفضل أن ننتظر حتى انتخاب البرلمان لكى يقوم بإصداره؟
فأما الإجابة عن الشق الأول من السؤال فهى بدون مواربة بنعم، لأن إقرار الحقوق الأساسية بكل أنواعها واعتبارها لصيقة بأصحابها من البشر لا يعنى على الإطلاق تركها دون تنظيم قانونى يتضمن قواعد وأدوات ومؤسسات ممارستها والشروط الواجب توافرها لتحقق القيام بها بدون انتقاص والحيلولة فى نفس الوقت دون التوسع فيها على حساب حقوق أخرى أو أناس آخرين قد تتعارض حقوق أساسية لهم معها. وبالتالى فإن صدور قانون لتنظيم الحق فى الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية فى الأماكن العامة يعد أمراً ليس منطقياً فقط بل وأيضا هو واجب حتى يتسنى للمواطنين المصريين التمتع بممارسة هذا الحق بعد وضعه منظماً ضمن المنظومة التشريعية للبلاد بعد ثورتها المتواصلة.
وعما إذا كانت هناك ضرورة لإصدار هذا التشريع المنظم لذلك الحق فى الظروف الحالية وقبل انتهاء المرحلة الانتقالية وبقرار بقانون من رئيس الجمهورية المؤقت، فالإجابة القاطعة هى نعم. والمبررات لهذا الرأى عديدة لعل أبرزها هو أن الإقرار بضرورة تنظيم الحقوق الأساسية هو أمر منته ومستقر عليه فى جميع مجتمعات العالم، وبالتالى فإن صدوره اليوم مثل صدوره بعد أسابيع أو شهور قصيرة أو طويلة، ففى الحالتين لابد من إصداره. وقد يرد على هذا بأن صدور القانون عن رئيس الجمهورية المؤقت يختلف ديمقراطياً عن صدوره عن برلمان منتخب وموقع من رئيس جمهورية منتخب أيضاً. إلا أن ظروفاً أخرى تتعرض لها البلاد حالياً فى فترتها شديدة الحرج الراهنة تجعل من إصدار هذا القانون المنظم لذلك الحق أمراً ضرورياً، لأن الأمر يتعلق اليوم بتهديدات كبيرة للمسار الثورى برمته، ومحاولات مستميتة من قوى الثورة المضادة وحلفائها الإقليميين والدوليين لكسر الثورة المصرية وزرع الفوضى والعتق فى البلاد، وقتل أى إمكانية لتقدمها الاقتصادى واستقرارها الأمنى، وهو ما يزيد من ضرورة المسارعة بإصدار هذا القانون قبل أن يفوت الأوان. كذلك فإن وضع هذا القانون الآن وقبل الاستفتاء على الدستور وانتخابات البرلمان، وبعدها انتخابات مجلس الشعب، هو فى حد ذاته ضرورة لإجرائها جميعا فى مناخ قانونى مستقر ومنظم بما يسمح لجميع الاتجاهات والقوى السياسية والحزبية بأن تمارس حق التعبير والاحتجاج المنظم عن آرائها بحرية كاملة، ودون افتئات أو عدوان من بعضها على البعض الآخر فى ظل المنافسة الطبيعية القوية فى مثل هذه المناسبات الانتخابية، والتى ستشمل البلاد من أقصاها إلى أقصاها.
بما أن الأمر كذلك، وأنه من الواجب الشروع فوراً فى إصدار قانون لتنظيم الحق فى التظاهر والاجتماع السلمى فيتبقى الحديث التفصيلى حيث تكمن جميع الشياطين عن المشروع المقدم من حكومة الدكتور الببلاوى. وبغض النظر عن دقة وصحة جميع الملاحظات والانتقادات التى سيقت على المشروع، فإن إعلان الحكومة عن استعداداها للتعديل والاستجابة لها هو أمر يحسب لها، ويتبقى فقط أن يتم تنظيم هذا فى مسارات محددة وسريعة. وتتلخص الانتقادات الموجهة لمشروع القانون فى عدة نقاط رئيسية أبرزها هو منح السلطة التقديرية للقادة الأمنيين الميدانيين فى تقدير مدى خروج المظاهرات والمواكب عن مسارها القانونى، ومن ثم استخدام صور متصاعدة من القوة معها، وأيضا إعطاء الحق لوزارة الداخلية فى الاعتراض على المظاهرات أو مساراتها أو توقيتها، وفقا لمعايير عامة غير منضبطة، وترك الطعن على قرارها لمنظميها أمام القضاء، وكذلك تحديد حرم يمنع التظاهر أو التجمع أمامه لعدد كبير من المبانى العامة والحكومية والأمنية والسيادية، وأخيرا تحريم المبيت او الاعتصامات الطويلة التى تمتد أياما وليالى، ولا تنتهى بعد ساعات من بدئها.
والحقيقة أن إدخال تعديلات على هذه القضايا الجوهرية هو أمر ممكن ووارد إذا خلصت النوايا وصحت الأجواء. فمن الممكن فيما يخص الأوضاع الميدانية للمظاهرات أن يكون هناك دوما عنصر قضائى تطلبه الداخلية أو المنظمون للمظاهرة لكى يراقب مجريات الأمور فيها وأثناءها، ويكون له دون غيره اتخاذ القرارات التى يؤجرها القانون فيما يخص الإجراءات الميدانية. كذلك فمن الوارد فيما يخص قرارات السماح بالمظاهرات او التجمعات أن يتاح حق اللجوء للهيئات القضائية لكل من وزارة الداخلية ومنظميها على حد سواء، على أن يكون القرار النهائى لهذه الهيئات، وفى خلال مدة يحددها القانون لا تتجاوز ثمانى وأربعين ساعة. وأما فيما يخص الحرم المحدد أمام المبانى العامة والحكومية والأمنية والسيادية فيمكن تقليص مساحة هذا الحرم إلى أقل مدى ممكن يحقق لها الأمان والاستقرار الوظيفى على أن يتم التحديد الدقيق فى قانون لنوعية هذه الهيئات والمبانى التى يجب أن يكون لها حرم لا تتجاوزه المظاهرات بدون توسع ولا إفراط لا ضرورة لهما. أخيراً فإن موضوع الاعتصام يمكن حله عن طريق تحديد أماكن مخصصة له فى كل محافظة أو مدينة أو أن يسمح به فى أى أماكن أخرى، بما لا يعوق الحركة والمرور ويعطل مصالح المواطنين، وبما يسمح للاعتصام وأصحابه بأن يمارسوا الضغوط التى يسعون من خلالها لتحقيق الأهداف التى يطالبون بها.
هذا عن الإمكانيات المتاحة لتعديل القانون الحكومى، وهى كما تبدو كثيرة وممكنة ولكن بشرط توافر النوايا الحسنة والرغبة فى التوصل لحل سليم. أما إذا صعب هذا الأمر وحالت الشكوك دون تنفيذه، فإن الحل الآخر هو أن تقوم الحكومة باستعارة مؤقتة لقانون تنظيم التظاهر من إحدى الدول الديمقراطية المتقدمة بكامل نصوصه، مثل فرنسا أو بريطانيا، وتقوم بترجمته وتعديل ما يلزم فيها ليتلاءم مع الأوضاع الإدارية والقانونية المصرية، على أن يتم تطبيقه لفترة مؤقتة تستمر حتى نهاية المرحلة الانتقالية، ويتاح بعدها للبرلمان المنتخب أن يصدر القانون الدائم لتنظيم حق المظاهرات والمواكب والمسيرات والاحتجاجات السلمية.
المصدر جريدة المصري اليوم