مجموعة سعودي القانونية

علاء

افترض أنك انتقلت إلى منزل جديد ووجدت فى نفس الدور الذى تسكنه جاراً شقته فى مواجهة شقتك، ثم سرعان ما اكتشفت أن جارك هذا شخص لا يطاق، فهو يرفض باستمرار أن يدفع إيصالات الكهرباء الخاصة بالمصعد وإضاءة العمارة، وهو يلقى بقمامته أمام شقتك ليتهرب من دفع أتعاب الزبال، وهو يتسبب بإهماله فى نشع المياه من حمامه على جدران شقتك، ثم يرفض إصلاح المواسير داخل شقته إلا لو كان الإصلاح على حسابك أنت.

باختصار فإن هذا الجار يعتدى على حقوقك باستمرار فماذا تفعل؟! طبعاً ستحاول أن تحل المشكلة بالحسنى، لكن الجار المزعج يتمادى فى الاعتداء على حقوقك فلا يكون أمامك عندئذ إلا اللجوء للقانون. ستحرر محاضر فى قسم الشرطة بكل المخالفات التى يفعلها جارك، وستتحول المحاضر إلى قضايا تنظرها المحاكم.. افترض بعد ذلك أن حريقاً قد شب فى الدور الذى تسكنه مع جارك وراحت ألسنة اللهب تتصاعد لتهدد المبنى كله. سوف تهرع بالطبع لإطفاء الحريق، وهنا ستفاجأ بأن جارك الذى هو خصمك اللدود قد خرج إليك ليساعدك فى إطفاء الحريق.. ماذا تفعل عندئذ؟!

أمامك طريقتان للتصرف: إما أن تقول لنفسك هذا الجار خصم لى وقد اعتدى على حقوقى وبالتالى لن أتعاون معه ولن أضع يدى فى يده أبدا حتى ولو كان ذلك من أجل إطفاء حريق يتهددنا جميعا.. أو تفكر بطريقة أخرى، فتقول لنفسك صحيح أن لدى مشكلة مع جارى، لكن خطر الحريق أكبر من هذه المشكلة، فلابد أن أؤجل مشكلتى مع خصمى وأتعاون معه حتى نطفئ الحريق، لأن هذا الحريق لو استمر سيدمر البيت كله بما فيه شقتى وشقة جارى وشقق السكان جميعا، وعندئذ لن يكون لدى ما أتنازع عليه مع جارى أساسا. طريقة التفكير الأولى، التى ترفض التعاون مع الجار الخصم لإطفاء حريق، تحمل- فى رأيى- الكثير من ضيق الأفق والتعصب وسوء التقدير، وهى لابد أن تنتهى بكارثة. أما طريقة التفكير الثانية، التى تعتبر الخصومة مع الجار تناقضاً ثانوياً وتعتبر التناقض الأساسى هو الحريق الذى يهدد المبنى كله، فهى الأنضج والأكثر موضوعية، لأنها تتخذ الموقف المناسب طبقا للظروف الواقعية.. ما علاقة هذه الحكاية بما يحدث فى مصر؟! لقد ثار الشعب المصرى بكل طوائفه ضد حكم الإخوان فى يوم 30 يونيو، ثم انضم الجيش إلى الشعب ونفذ إرادته فى عزل محمد مرسى ورسم خارطة طريق للانتقال الديمقراطى، أعدت بموجبها لجنة الخمسين مشروعاً للدستور وطرحته للاستفتاء العام. لقد قرأت مسودة الدستور فوجدته فعلاً من أفضل الدساتير التى شهدتها فى مصر فى مجالات المواطنة ومكافحة التمييز والحريات العامة وحقوق الأقليات والمرأة والطفل والمعاقين، كما أنه يقلص من صلاحيات رئيس الجمهورية ويجعل قراراته تحت رقابة مجلس النواب، الذى يمثل إرادة الشعب. هذا الدستور بحق يضع مصر على بداية النظام الديمقراطى باستثناء مادتين سيئتين.

المادة التى تلزم رئيس الجمهورية بأخذ موافقة قيادات الجيش قبل تعيين وزير الدفاع. هذه المادة تتناقض مع النظام الديمقراطى، حيث الأصل أن الرئيس المنتخب من الشعب يملك سلطة تعيين وزير الدفاع وعزله بدون أخذ موافقة أى جهة كانت. على أن هذه المادة برغم عوارها من الممكن قبولها، أولاً لأنها مؤقتة ستسقط تلقائياً بعد ثمانى سنوات، كما أن واضعى الدستور أخذوا فى اعتبارهم الظروف الاستثنائية التى تمر بها مصر، وأرادوا أن يحافظوا على استقرار الجيش المصرى، وهو الجيش العربى الوحيد الذى خرج سالماً من تقلبات الثورات العربية. على أن هناك مادة أخرى لا تتسق إطلاقاً مع النظام الديمقراطى، ولا يمكن قبولها بأى حال، وهى تلك التى تسمح بمحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية فى حالات معينة حددها الدستور. إن النظم الديمقراطية لا تعرف المحاكمات العسكرية للمدنيين تحت أى ظرف من الظروف، فالقضاء العسكرى غير مستقل، حيث يتولاه قضاة هم فى الواقع ضباط لهم رتب عسكرية ولهم رؤساء لا يستطيعون تجاهل أوامرهم، كما أن القائد الأعلى للقوات المسلحة من حقه- طبقاً للقانون العسكرى- إصدار العفو عن أى متهم أو إعادة محاكمته، مما يجعل مصير المتهم المدنى معلقاً فى يد قائد الجيش بغض النظر عن إدانته أو براءته.

طبقا لمعايير العدالة الدولية، فإن القضاء العسكرى يفتقر للضمانات القانونية التى تضمن محاكمة عادلة للمتهمين المدنيين.. فى نوفمبر 1954، لأول مرة فى تاريخ مصر، أحال الزعيم عبدالناصر متهمين مدنيين إلى المحاكم العسكرية فى أعقاب محاولة اغتياله الشهيرة فى المنشية بالإسكندرية، ومنذ ذلك التاريخ لم يكن القضاء العسكرى أداة لتحقيق العدالة للمدنيين، وإنما كان غالباً أداة للبطش بكل من تريد السلطة الانتقام منهم أو إسكات أصواتهم المعارضة لسياساتها.

إن تحديد حالات معينة لإحالة المدنيين للمحاكم العسكرية لن يكون له أثر كبير فى كبح جماح المحاكمات العسكرية، فالتهم المطاطة تتسع دائما للجميع، وأى مقال ينشر لا يعجب المؤسسة العسكرية من الممكن اعتباره تشويهاً لسمعة القوات المسلحة وتقديم كاتبه لمحاكمة عسكرية. لقد كانت تجربتنا مع القضاء العسكرى مؤسفة فى فترة حكم المجلس العسكرى السابق، فتمت إحالة آلاف المدنيين إلى محاكمات عسكرية تفتقر إلى أبسط قواعد العدالة. لقد وثقت مجموعة «لا للمحاكمات العسكرية» شهادات مئات المتظاهرين السلميين الذين تم القبض عليهم بواسطة الشرطة العسكرية واقتيادهم إلى مبنى القضاء العسكرى، حيث وجدوا هناك زجاجات مولوتوف تم اتهامهم بأنهم استعملوها فى الاعتداء على الأفراد والمنشآت العسكرية، وصدرت ضدهم أحكام بالسجن سنوات بعد محاكمات سريعة لم تتجاوز مدتها أياماً قليلة، لم يمكنوا خلالها من الدفاع عن أنفسهم بطريقة عادلة وقانونية. قد يتساءل البعض: وماذا نفعل مع الجماعات الإرهابية التى تهاجم منشآت الجيش؟! هناك إجابة واحدة: إذا كنا نعيش فى دولة القانون بحق فإن كل من ارتكب جريمة (مهما كانت بشاعتها) يجب تقديمه لمحاكمة عادلة، وشروط هذه المحاكمة العادلة لا تتوفر فى القضاء العسكرى. إن الحرب على الإرهاب لا يجب أن تكون سبباً لحرمان المتهم من قاضيه الطبيعى، كما أن القضاء المدنى يستطيع دائما أن ينزل بالمتهمين أشد العقوبات التى تصل إلى الإعدام شنقاً، لكن ذلك يكون بعد محاكمة حقيقية تتوفر فيها ضمانات العدالة.

لا يمكن أن نقدم المدنيين إلى محاكم عسكرية ثم نطلب من العالم أن يصدقنا عندما نؤكد أن مصر دولة ديمقراطية. ستظل المحاكمات العسكرية للمدنيين بمثابة هراوة غليظة فى يد السلطة تستطيع أن تهوى بها على رأس من تشاء وقتما تشاء. إن مخاوف المصريين من عودة دولة مبارك مفهومة ومشروعة. إن الحكومة الحالية انتقالية وغير منتخبة من الشعب، وبالتالى لا يحق لها إصدار القوانين، ومع ذلك فقد أصدرت قانوناً للتظاهر يقيد الحريات ويمنح سلطة منع المظاهرات لضباط وزارة الداخلية على عكس قوانين التظاهر فى الدول الديمقراطية التى لا تمنع فيها المظاهرات إلا بأمر المحكمة. بالإضافة إلى ذلك عادت وزارة الداخلية إلى ممارساتها القمعية، ورأينا كيف انقض الضباط على المتظاهرين السلميين أمام مجلس الشورى وضربوهم وسحلوهم، ثم قدموهم للمحاكمة، بينما لم يعاقب ضابط واحد من الذين رآهم الناس بأعينهم وهم يقتلون المتظاهرين أثناء الثورة. لقد عاد فلول نظام مبارك للظهور وظهرت شخصيات طالما عملت فى خدمة جمال مبارك وساعدته حتى يرث حكم مصر من أبيه، وكأنها مزرعة دواجن، وظهر من جديد رجال الأعمال الذين صنعوا ثرواتهم بفضل قربهم من مبارك، هؤلاء يمتلكون قنوات فضائية وصحفاً ويلعبون دوراً أساسياً فى توجيه الرأى العام ضد الثورة، ويشنون حملة كبرى للتشهير بكل من اشترك فى ثورة يناير التى يصرون على اعتبارها مؤامرة إخوانية، مع أن الإخوان

– كما هو ثابت تاريخياً- لم يشتركوا فى الثورة وأدانوها، ثم قفزوا عليها لما تأكدوا من نجاحها. هناك إذن مخاوف مشروعة من عودة نظام مبارك إلى السلطة ومن قمع المعارضين بواسطة المحاكم العسكرية. ولكن هل تكفى هذه المخاوف لكى نرفض الدستور أو نقاطع الاستفتاء؟!

لا أجد إجابة أفضل من الحكاية التى أوردتها فى بداية المقال، فكما قبل الجار التعامل مع الجار الخصم لأن خطر الحريق أكبر من الخصومة، فإننا يجب أن نوافق على هذا الدستور لأن رفضه ستكون له عواقب أسوأ بكثير من المحاكمات العسكرية للمدنيين. إن الاستفتاء الذى سيجرى بعد أيام على الدستور الجديد هو فى جوهره استفتاء على عزل مرسى وإنهاء حكم الإخوان. سيكون يوم الاستفتاء أول مناسبة يثبت فيها المصريون أن ما حدث فى 30 يونيو موجة ثورية أنهت حكم عصابة الإخوان الفاشية وليس انقلاباً عسكرياً، كما يردد الإخوان وأنصارهم. لقد ملأ الإخوان الدنيا صراخاً وعويلاً على ما سموه انقلاباً ضد رئيس منتخب، مع أن هذا الرئيس هو الذى قام بانقلاب ضد الديمقراطية عندما أصدر الإعلان الدستورى الذى ألغى بموجبه القانون ووضع قراراته فوق أحكام القضاء. لا توجد ديمقراطية بدون حق البرلمان فى سحب الثقة من رئيس الجمهورية المنتخب، لكن مصر لم يكن لديها برلمان لأن المحكمة الدستورية قضت بحله. فى غيبة البرلمان من حق الشعب أن يمارس سلطاته بنفسه، ولهذا فإن ما قامت به حملة تمرد، التى جمعت ملايين التوقيعات لعزل مرسى، إنما هو إجراء ديمقراطى تماماً بعد ذلك نزل ملايين الناس ليطالبون بعزل مرسى، وقام الجيش بتنفيذ إرادة الشعب.. الموافقة على هذا الدستور تعنى أن الشعب يوافق على عزل مرسى وإسقاط الإخوان، والعكس صحيح. حتى لو اعترضنا على بعض مواد الدستور فيجب أن نوافق عليه بأغلبية كبيرة، استكمالاً لمسار الثورة التى بدأت فى 25 يناير ثم أصلحت مسارها فى 30 يونيو. إن رفض الدستور أو ضعف الإقبال على التصويت فى الاستفتاء سوف يعود بنا إلى الوراء ويظهر ما حدث فى 30 يونيو على أنه انقلاب، وسوف يعطى الإخوان شرعية لا يستحقونها.. واجبنا أن نوافق جميعاً على الدستور لندفع بلادنا إلى الأمام، ولتكن معركتنا القادمة من أجل بناء مؤسسات منتخبة تحقق العدل والحرية وتمنع مصر من العودة إلى النظام القديم وتمنع المحاكمات العسكرية للمدنيين.. واجبنا اليوم أن نتناسى أى خلافات بيننا، ونجتمع على دعم هذا الدستور بأغلبية كبيرة، لنثبت للعالم كله أن الشعب المصرى هو الذى قرر إنهاء حكم عصابة الإخوان، وأنه الآن يؤسس لدولته الديمقراطية.

الديمقراطية هى الحل

المصدر جريدة / المصري اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *