هناك من بين عوام الناس من يسخر من علماء التاريخ وهم يقولون إن فى استطاعتنا أن نخرج من الماضى بكثير من العظات والدروس
يساعد استلهام أحداث الماضى إلى حد كبير فى فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، وهى رؤية تتسم بالحيوية والحركة وليست ثابتة فى مكانها أو جامدة، تعتمد على فهم وتحليل تفاصيل الوقائع والأحداث الفريدة التى مضت وانقضت، فالماضى يلعب دوره الواضح فى تحريك الحاضر، ولا يتوقف الأمر على ملامح تكوين الذات المجتمعية، بل يتخطاها إلى الظهور فى صلب ملامح التجديد، لا سيما المظهرية والذوقية منها.
والإلمام بما قد مضى لا يعنى امتلاك الإنسان بعض القصص والحكايات التى تسليه فى أوقات فراغه، أو تجعله قادراً على أن يتباهى أمام أصدقائه بما لديه من معلومات عن الذين رحلوا، إنما هو وسيلة مهمة بالنسبة له لقياس ما يجرى أمام عينيه الآن أو ما يتوقع حدوثه فى المستقبل على ما حدث لآخرين، كى يحاول أن يتفادى الأخطاء التى سقطوا فيها، ويستفيد من الصواب الذى سلكوه. فرغم اختلاف السياق، أو الزمان والمكان، فإن بعض الممارسات الإنسانية تتشابه، بل قد تتطابق، حتى لو فصلت بين الواحدة والأخرى قرون من الزمن أو آلاف من الأميال. ولذا يقول البعض إن «التاريخ يعيد نفسه»، وهو قول فيه بعض من الصواب، لكن صوابه يزيد كلما تعلق الأمر بظاهرة السلطة وما تنتجه من أقوال وأفعال.
ومع هذا، فهناك من بين عوام الناس من يسخر من علماء التاريخ، وهم يقولون إن فى استطاعتنا أن نخرج من الماضى بكثير من العظات والدروس، ويصرخ فى وجوههم: «التاريخ لا يعيد نفسه». وهنا يرد عليهم الأنثربولوجى الكبير ويليام هاولز فى كتابه «ما وراء التاريخ» قائلاً لهم: «هذا قول يماثل فى الغباء والسخف الزعم القائل بأن «الصاعقة لا تصيب نفس المكان مرتين»، فالمؤكد أن القولين يتمتعان بقدر واحد من الصحة والصدق. وربما كانت الصاعقة لا تصيب الشىء ذاته مرتين، ولكنها تعرف على أى حال الأشياء التى تحب أن تصيبها. ولذا كانت تصيب بناية Empire State كلما هبّت إحدى العواصف الرعدية. وإذا كان التاريخ لا يكرر نفس الدور بنفس الدقة، فذلك راجع إلى أن الثقافة المتغيرة تغير الموقف كله. ولكن هذا لم يمنع أحد الساسة المؤرخين مثل «تشرشل» من أن يتنبأ بما ستفعله بريطانيا فى المستقبل، مما فعلته فى الماضى.
ومزج «الحكمة الكلية للتاريخ» مع ما يجود به العقل والفؤاد من قدرة على التبصر يجعل باستطاعتنا التنبؤ بما سيجرى، ولذا يقول جان ج. تايلور فى كتابه «عقول المستقبل»: «من المؤكد أن المستقبل يخبئ للإنسان إنجازات أخاذة، ولكن أهمها سيتعلق بتلك الميزة الخاصة التى يمتلكها، ألا وهى تدوين خبراته حتى يستفيد منها الآخرون. فهذه القدرة الفريدة تسمى الترميز Symbolization، وبها تكون الكلمات المكتوبة رموزاً للأفكار.. وبالمزج بينها وبين الخيال يستطيع الإنسان أن يخطط للمستقبل عن طريق إدراكه الواقعى لنتائج حدث معين مختار من بين عدد من البدائل والاحتمالات».
ويتفق دليل بيرنز، الذى أتى على رأى مهم فى هذا المهم بثنايا كتابه «المثل السياسية»، مع الرأى السابق، إذ يقول فى كتابه المهم «المثل السياسية»: إن «التاريخ هو تفسير للكيفية التى نفعل بها ما نحن فاعلون. واهتمامنا بما حدث يرجع أكثر ما يرجع إلى رغبتنا فى فهم ما هو حادث الآن، وهذه الرغبة بدورها نابعة إلى حد كبير من حاجتنا إلى التأثير فيما سوف يحدث فى المستقبل، وعلى ذلك يصبح التاريخ عديم الجدوى ما لم يمدنا بجانب من المعرفة له قيمة عملية، فمهمته أن يبين لنا الوسيلة التى تمكننا من أن نجعل من الحاضر مستقبلاً أفضل، وذلك بفهم الطريقة التى أصبح بها الماضى حاضراً.. ويجب أن ننظر إلى الماضى، كأنه كان ذات يوم مستقبلاً، وأن نفكر فيما حدث من تغيير كما لو كان يتحرك أمام نظرنا لا كشىء ذهب وانقضى.. ونحن إذ نتلفت إلى الوراء، فإنما نفعل ذلك كى نتجه بأبصارنا إلى الأمام».
ويجب ألا يقتصر الأمر على تاريخ البشر وما ينتجونه من ظواهر إنسانية متعددة، إنما من الضرورى أن يمتد إلى تاريخ الأفكار. فالمعرفة ذات طابع تراكمى، وسيكون من الحماقة أن نبدأ من الصفر فى التعامل مع أى مشكلة نريد حلها، أو قضية نسعى إلى الإلمام بمختلف جوانبها، بل من الضرورى أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، ونضع لبنة جديدة فوق كل ما تركه لنا أولئك الذين سبقونا على درب العلم.
لكن، وفق إسماعيل نورى الربيعى، تبقى هناك مشكلة فى نقل المعرفة الجاهزة من سياقها الزمنى ودمجها فى تفاعلات ثقافية واجتماعية شديدة الاختلاف، لا سيما ما يتعلق بالآليات التى تفرضها طريقة التفاعل المباشر مع الوقائع والأحداث، سواء شفاهة أم كتابة.. فالمؤثرات التى تفرزها كل مرحلة تكون لها مقايساتها الخاصة، ورؤاها المرتبطة بطبيعة الممارسات السائدة، والوظائف الخاصة للمعانى من خلال حقبة تاريخية معينة. ومع هذا تبقى لمعرفة ما جرى فى الماضى، للبشر أو للأفكار، أثرها المهم فى تخيّل ما سيأتى.
وعلاوة على تاريخ الفعل أو السلوك الإنسانى وما ينتجه من وقائع وأحداث وظواهر وتاريخ الأفكار، يجب أيضاً استقراء تاريخ الخبرة الشخصية والنفسية عبر «الاستبطان»، الذى يزاوج فيه الإنسان بين التجريب والحدس فى تحصيل معرفة بديهية للأشياء القائمة أو تخيل الخطوة القادمة، سواء بالبحث داخل النفس والتحقق من الأمور التى يحملها الذهن ويحتفظ بها، أو بتفحص بعض الخبرات الذاتية.
من هنا فإن الإلمام بحكمة التاريخ غاية فى الأهمية فى معرفة ما سيأتى، أو التنبؤ به، فالماضى عنصر أساسى فى تحديد المستقبل.