عمار على حسن يكتب | «صمت الكهنة» (2-2)
.. وعلى ضفاف الحكاية المركزية فى رواية «صمت الكهنة» لصبحى موسى تتناسل الحكايات الأسطورية السائدة فى الريف عن الجن والعفاريت ولصوص الليل، فى «واقعية سحرية» تظهر توالد الخرافات التى تعشش فى أذهان البسطاء فى دلتا النيل، يستفيد فيها الكاتب من الموروث الشفاهى المتداول، الذى عايشه وكابده، وامتلك قدرة نسبية على التعبير عنه، بلغة فياضة زاوج فيها بين العامية المحكية والفصحى التى ينطق بها لسان راوٍ عليم. وتخدم هذه القصص الفرعية فى الغالب الأعم المجرى الرئيسى للرواية، وفى بعض المواضع تبدو زائدة شاردة، أشبه بقصص قصيرة أو أقاصيص فى ثنايا الرواية.
ولأن الكاتب هو فى الأصل شاعر، أنتج خمسة دواوين، فإن الشعر حاضر بقوة فى سطور سرده، من زاوية الجزالة وسحر البيان والمفارقة والصور المصنوعة بإتقان، وذلك من قبيل: «أخذ عصاه ليدب على أكتاف الريح».. «وحدها النجوم هى التى تصيح فى الفراغ منذرة بالخراب».. «المسافة التى ملأها العرق بين جسدى وملابسى تحتاج إلى أن أسبح آلاف الهكتارات».. «كان النجم الذى يتابعه حور منذ ليالٍ مضت يكاد أن يطير فى وجهه الآن».. «وكانت عظام صدره هى القبر الذى يمكننى الدخول إليه، عظام نخرة كغاب النراجيل»، «شجرة الموت تقع على جدران روحى».. الخ.
وإلى جانب الشاعرية تزخر الرواية بالرؤى المعرفية والفلسفية، التى تأتى فى ثنايا السطور أو يبدأ بها الكاتب فصولها مثل: «لا يمكن للمرضى النفسيين أن يقيموا عملاً متكاملا حتى لو كان كتابة هلاوسهم».. «الشجاعة هى ذلك الشىء النسبى الذى يتفاوت من شخص إلى آخر ومن زمن إلى زمن».. «المرأة هى المرأة فلا تفتح صدرك كله لعطرها المقدس، فقط داعبها، واترك ابتسامة هادئة ترفرف حول هالتها من بعيد».. «النسوة كهنة آخرون يحركون العالم من بعيد، من خلف جدران معتمة».. «ليس مفيداً أن تبحث فى تاريخ من أصبحوا فى منزلة أعلى من البشر، فأعمالهم لن تفيدك، والبحث عنها يؤدى إلى الموت».. «الحكمة دائماً تستند إلى بركان يغلق الأفواه قبل أن تفكر العقول فى فتح الشفاه».. «من رضى عن نفسه كان شيطاناً يعيث فى الأرض، أو إلهاً نزل من السماء ليمشى بين البشر، وذلك مستحيل».
وقد قصد الكاتب بث هذه الرؤى الفلسفية والحكم فى نصه، وكانت إما فاتحة لما سيأتى بعدها، أو تلخيصاً لما ورد قبلها، أو محاولة للوصول إلى أعماق أبعد من السرد الظاهرى أو الحوار الجارى على ألسنة شخصيات تعيش الحياة ككابوس مخيف.
لا تحفل هذه الرواية بالتفاصيل، ويفترض كاتبها فيمن يطالعها أنه عارف بالطقوس والتقاليد الفرعونية، فيختزل الكثير منها فى سطور قليلة، يخدم بها المضاهاة التى يصنعها بين أقدار بطلين تفصل بينهما آلاف السنين، متكئا على تصورات مضمرة تبين أن حاضر مصر متصل بماضيها. وهذا جعل النص على سلاسته يغرق أحياناً فى الغموض، أو يبدو تسجيلاً للهلاوس المرضية التى تسيطر على البطل، بما جعله لا يتهادى لقارئه بيسر، ويتطلب منه أن يحيط بما هضمه الكاتب من مطالعات، وهى المسألة التى تفاداها فى روايته «أساطير رجل الثلاثاء» التى عنى فيها بتسجيل التفاصيل مهما صغرت، رغم سياقها المعاصر، حيث تعد أشبه بسيرة ذاتية لتنظيم القاعدة.